فصل: الأول في التحذير من ولاية القضاء على عظيم شرفه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***


بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الأقضية

الأقضية جمع قضاء‏.‏ نحو فَضَاء وأفْضِِِِِِِِِيَة وهواء وأَهْوِيَة‏.‏ والقضاء مشترك في اللغة قَضَى بمعنى أراد ومنه قضاء الله وقدره، وقضى بمعنى حكم، ومنه قضاء القاضي‏.‏ والفرق‏:‏ أنّ هذا إسناد من باب الكلام، والأول من باب الإرادة، وقضى بمعنى فعل، ومنه‏:‏ قضيت الصلاة، وقضى عليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع، يريد زريدتان عملهما داود، وقضى بمعنى قطع، ومنه‏:‏ قضيت الدين أي قطعت مطالبة الغريم

قال صاحب التنبيهات‏:‏ لها سبع معان ترجع إلى انقطاع الشيء وتمامه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك إلى أجل مُسمّىً لقُضِي بينهم‏)‏ أي فُصل، وقَضَى القاضي‏:‏ فصل الخصومة، وقضى الدين؛ وإحكام العمل، ومنه قضيت هذه الدار، أحكمتُ عملها، ومنه قو له تعالى‏:‏ ‏(‏فلما قَضَى موسى الأجلَ ‏(‏أي أحكمه‏.‏

ثم يتمهد الفقه في هذا الكتاب بيان شرف القضاء وخطره، وبيان شروطه والمفيد لولايته ولولاية غيره، والأسباب الموجبة لعزله، وأنواع آدابه، ومستندات أقضيته، ومن يجوز أن يحكم له وعليه، واستخلاف نوابه، ونقص ما يتعين نقضه، وتمييز ما ليس بقضاء من الفتاوى عما هو من حقيقته وجنسه، وفي كيفية إنهائه لحاكم يحكم بغير الذي حكم به، فهذا أحد عشر بابا‏.‏

الأول في التحذير من ولاية القضاء على عظيم شرفه

وفي النوادر‏:‏ قال مالك‏:‏ أول من استقصى معاوية، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأبي بكر ولا لعثمان قاض، فالولاة يقضون‏.‏ وأنكر قول أهل العراق‏:‏ إن عمر استقضى شريكاً، وقال يستقضى بالعراق دون الشام، واليمن دون غيره، ‏(‏كذا‏)‏ وليس كما قالوا‏.‏

وفي الجواهر‏:‏ الإمامة والقضاء فرض على الكفاية، لما فيه من مصالح العباد ومنع التظالم والعناد، وفصل الخصومات ورد الظلمات، وإقامة الحدود وردع الظالم ونصر المظلوم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏ والحكم بالعدل أفضل من أعمال البر وأعلى درجات الأجر، لأنه نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الصحيحين‏:‏ ‏(‏المقُسطون على منابر من نور يوم القيامة، يغبطهم النبيئون والشهداء‏)‏ ولكن خطره عظيم حقنا لاستيلاء الضعف وغلبة الهوى علينا‏.‏ واتباع الهوى من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأما القاسطون فكانُوا لجهنّمَ حَطَباً‏)‏ تقول العرب أَقْسَط بالألف إذا عَدَل، وقسط بغير ألف إذا جار، وعنه - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏إنّ أعتى الناس على الله، وأبغض الناس على الله، وأبعد الناس من الله، رجلٌ ولاّه الله من أمر أمة محمد شيئاً ثم لم يعدل فيهم‏)‏ فالقضاء محنة عظيمة، فمن دخل فيه فقد ابتُلي بعظيم؛ لأنه عرَّض نفسه لهذه الأنواع، والخلاص أحسن، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح‏:‏ ‏(‏من جُعل قاضيًا ذُبح َبغير سكين‏)‏ قال العلماء‏:‏ إنّ جار فقد أهلك نفسه هلاكا عظيما، فهو ذبح مثقل، وهو كناية عن خطئهم الشديد، وإن عدل فكذلك، فإنه لا يصل على الخلاص إلاّ بشدائد عظيمة جدًا من مراقبة الهوى ومخالفته وسياسات الناس مع الاحتراز منهم خصوصًا ولاة الأمور، مع إقامة الحق عليهم، ومخالفة أغراضهم في أتباعهم وأنفسهم، والثبوت عند انتشار الأهوال العظيمة، والتشانيع الهائلة، وإبهام حصول المضار الشنيعة في النفس والعِرض والمال، ونفور النفس من أَلَم العزل، وشَماتة الأعداء، وتألم الأولياء، إلى غير ذلك من تتميمات الشهود والنواب والقرناء، وقلة من يستعان به من الأُمناء ذوي الكفايات والكَفَالات، فربما منى جعل الذي من خائن كائِد، والتباس النصائح بالمكائد والحيل، لتحصيل الأغراض الفاسدة، والشيطان من وراء ذلك يُغري، وَحُب الرياسة يمد ويُعمي، وهو باب يتعذر عذره ولا ينحسمُ مدده، فلنسأل الله العفو والعافية، وقد قيل لابن عباس‏:‏ أي الرَّجُلين أحب إليك رجل كثُرت حسناته وسيئاته، ورجل قلََََّت حسناته وسيئاته‏؟‏ فقال‏:‏ لا أعدل بالسلامة شيئًا‏.‏ وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنَّا عَرَضْنَا الأَََمَانَةَ على السّمَوَاتِ والأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلَها الإنْسَانُ إنّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا‏)‏ جاء في تفسيره‏:‏ أنّ الله قال لهذه المذكورات‏:‏ هل تحملن التكليف‏؟‏ فإن أطعتن فَلَكُن المَثُوبات العليات، وإن عصيتُن فلكن العقوباتُ المرديات، فقُلن‏:‏ لا نعدل بالسلامة شيئًا، وقَبِلَ ذلك الإنسانُ، فاخْتار حملها طمعاً في الثواب والسلامة من العقاب، فغلب عليه الهلاك، وقيل فيه الرشاد، وكذلك في الصحيح‏:‏ يقول الله تعالى لآدمَ يومَ القيامة‏:‏ ‏(‏إبعثْ بعثَ النّارِ، فيُخرج من كل ألف تسعُمائة وتسعة وتسعُون، فيخلص من كل ألف واحدٌ‏)‏ فلذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏إ?نَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ‏(‏أي ظلومًا لنفسه، جهولًا أي بالعواقب، فلذلك لا ينبغي أنْ يُقدم عليه إلاّ من وثِق بنفسه، وتعين له، أَوْ أجْبرَه الإمامُ العدلُ وهو أهل، وله أنْ يمتنع ويهرب‏]‏ فلا يجب ‏[‏بمجب عليه القَبول، وبهذا قال الأئِمة‏.‏ وتعيُّنه بأن لا يكون في تلك الناحية مَن يصلح للقضاء سواه، فيحرم الامتناع لتعين الفرض عليه، ولا يأخذه بطلب، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في مسلم ‏(‏لا نولّي على هذا العَمل أحدًا سأله‏)‏ وإنْ اجتمعت فيه شرائط التولية لكي لا يوكل لنفسه فيعجز، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الترمذي‏:‏ ‏(‏مَن طَلب القضاء وُكل إلى نفسه، ومن أُكره عليه أَنزل الله ملكًا ليسدده‏)‏ وقال الترمذي هو حسن، وفي الباب من الوعيد قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَِئكَ هُمُ الكافِرُونَ ‏(‏وفي أية أخرى‏:‏ ‏(‏فَأولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ‏(‏وفي أخرى‏:‏ ‏(‏فأولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ‏(‏وعن عمر - رضي الله عنه -‏:‏ وددتّ أن أنْجُوَ من هذا الأمر كِِفافاً لا لِي ولا عَليّ‏.‏

وقال أبو قِِلابَة‏:‏ مثََل القاضي العالم كالسابح في البحر، فَكَم عسى أن يسبَح حتى يغرق، وكتب سليمان إلى أبي الدرداء‏:‏ بلغني أنك جُعلتَ طبيبًا، فإن كنت تُبرئ فنِعِمَّا لك، وَإن كنتَ متطبِّباً فاحْذر أن تقتل إنسانًا فتدخل النار، فكان أبو الدرداء إذا قَضَى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما فقال‏:‏ ارجعا، أعيد علىَّ قضيتكما، مُتَطبِّب والله مُتَطَبّب والله‏.‏ قال صاحب المقدمات‏:‏ الهروب عن القضاء واجب، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ مستحب، وطلب عمَر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يولى رجلًا القضاء فأبَى عليه فجعل يديه على الرضا فأبى حتى قال له‏:‏ أَنشُدُكَ بالله يا أمير المؤمنين، أفي ذلك تعلم خيرًا لي‏؟‏ قال فـأعفني، فقال‏:‏ قد فعلت‏.‏ قال مالك‏:‏ قال لي علي بن الحسين‏:‏ ما أدركتُ قاضيًا استُقضي بالمدينة إلاّ رأيت كآبَةَ القضاء وكراهته في وجهه، إلاّ قاضيين منهما‏.‏

وطلبُ القضاء حسرةُ يوم القيامة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سَتَحرصون على الإمارة، وستكون حَسرة وندامة يومَ القيامة‏)‏ وفي مسلم ‏(‏لا تَسأل الإمارةَ، فإنك إنْ تؤتهَا عَن غير مسألة تُعَن عليها، وإن تُؤتَها، عن مسألة تُؤكلْ إليها‏)‏ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنا لا نستعمل عَلى عَملنا من أراده‏)‏ قال صاحب المقدمات‏:‏ فيجب إن لا يولَّى القضاء مَن أراده وطلبه وإن كان أهلاً؛ مخافة أن يوكل إليه فلا يقوم به، وقد نظر عمر - رضي الله عنه - إلى شاب وفَدَ عليه فأعجبه، فإذا هو يسأل القضاء، فقال عمر - رضي الله عنه -‏:‏ كدتَّ أن تغرني من نفسك، إن الأمر لا يقوَى عليه من يحبه‏.‏

وفي الترمذي‏:‏ قال - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏من كَان قَاضيًا فقَضَى بالعدل فبالحَريّ أن ينقلب منه كفافا‏.‏‏)‏

وقال - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏القُضاةُ ثلاثة‏:‏ واحد في الجنة واثنان في النار، أما الذي في الجنة‏:‏ فرجل عَرَفَ الحق فقََضَى به، وأما الذي في النار فَرَجُل عَرَفَ الحق فجارَ فِي الحُكم فهو في النار، وَرجل قَضَى في الناس على جَهل فهو في النار‏)‏ وقَال - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏إذا اجتَهد الحاكمُ فأخطأ فله أجر، وإن أصَابَ فَلَه أجْران‏)‏ قال ابنُ أبي زيد‏:‏ هذا إذا كان من أهل الاجتهاد، أما المتكلف الذي ليس من أهل الاجتهاد، فهو الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح‏:‏ ‏(‏سبعَةٌ يُظلُّهم الله في ظله يومَ لَا ظل إلاّ ظلهُ‏:‏ إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجُلٌ قلبُه معلَّق بالمسْجِد إذا خَرج منه حتى يعودَ إليه، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا على ذلك وافترقا عليه، ورجُلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجُلٌ دَعتْه امرأةٌ ذَاتُ منصِبٍ وجمال، فقال‏:‏ إني أخاف الله رب العالمين، ورجُلُّ تصدقَ بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شِمَالُهُ ما تنفق يمينُه‏)‏‏.‏ فبدأ بالإمام العادل، ومما ورد في التحذير‏:‏ قو له - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين‏:‏ ‏(‏يا أبا ذَر، إني أراكَ ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَرَنَّ على اثنين، ولا تَولَيَنّ مالَ يتيم‏)‏ قال بعض العلماء‏:‏ قوله‏:‏ أحب لك ما أحب لنفسي، ظاهر في أنه يحب لنفسه عدمَ الحكم، مع أنَّ الله تعالى أمره، بالحكم، وحاشاه أن يكرَه ما أمره الله به، بل معناه‏:‏ لو كنت ضعيفًا لأحببت عدم الحكم لعَجزي عنه حينئذ، فالذي كان لأجل صِِفة أبي ذر في ضعفه لاَ الحُكم في نفسه، فَمَا زالَ - صلى الله عليه وسلم - حاكماَ، وأرسل علياً قاضياً ومعاذاً وغيَرهما إلى الأمصار، وهو منصب الأنبياء أجمعين‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏إنّا أَنْزَلْنَا التّوْرَاةَ فِيهَا هُدَّى ونُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبِيئُون‏)‏ وقال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين‏:‏ ‏(‏لا حَسَدَ إلاّ في اثنين‏:‏ رجلٍ آتَاهُ الله مَالًا فَسَلّطَه عَلَى هَلَكَتِهِ في الحَق، ورجلٍ آتَاهُ الله الحكمةَ فهو يقضي بِهَا ويعَلِّمُها‏)‏‏.‏

تنبيه‏:‏ قال صاحب القَبَس‏:‏ الأحاديث والآثار كثيرة تدل على الأمر بالزهد في القضاء، والفرض لا يأمر بالزهد فيه، بل هو واجب على الكل ابتداء، وإنما يسقط بِفِعل البعض، وأجاب بِأَن شَرف القضاء معلوم قطعًا، وهذه الأحاديث ليستْ من هذا، وإنما هي تحَذر وتنبّه على الاحتراس من غوائل الطريق، وقال أصحاب ‏(‏ش‏)‏‏:‏ الغنيُّ تكره له الولاية، والفقير الذي ينال بالولاية كفاية من بيت المال لا يكره؛ لأنه اكتساب بسبب مباح بل طاعة، فهو أولَى من الوراقة، قالوا‏:‏ ومَن طلب القضاء رغبةً في الولاية والنظر، لا لنشر العِلم والعدل‏:‏ فثلاثة أقوال‏:‏ يكره له الطلَب والإجابة، ويستحبان، ويكره له الطلب وتستحب له الإجابة؛ لما تقدم من الأحاديث المرغِّبة، وموافقة الملائكة لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏إذا جَلَس القاضي في مَجلِسِه هَبَطَ عليه ملَكانِ يُسَددّانِه ويُرشِدَانِه ويوفقانِه، فإن جارَ عَرجَا وتَركَاه‏)‏ قلت‏:‏ والقول بالاستحباب مطلقًا بعيد، لما ورد من التحذير وطلب السلامة وسيرة السلف، فقد فرَّ بعضهم من القضاء فعاتَبه بعضُ أصحابه، فقال له‏:‏ أو ما علمت أنّ العلماء يحشرون مع الأنبياء، والقضاة مع الملوك، وتصدق لأن العلماء ورثة الأنبياء، وعلى هَدْيهم وإرشادهم، والتعليم والإرشاد هو مقصود الرسالة الأعظم، وأما تصرفهم بالقضاء والإمامة فتابع، ولذلك إذا أردت تعرفهم بين القضاء والفتيا فحملهُ على الفتيا أولَى، لأنه الغالب، كقوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏مَن أحْيى أرضًا ميتةً فهِيَ لهُ‏)‏ حمله ‏(‏ح‏)‏ على التصرف بالإمامة فلاَ يُحيي أحَدٌ إلا بإذن الإمام، ومالك و‏(‏ش‏)‏ على الفتيا، فيجوز مطلقًا، والقُضاةُ شاركوا في غالب أحوالهم وهو القهر والإلزام؛ فيحشر كل واحد منهم مع أهل صفته‏.‏ وَيؤكده ما رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏يُؤتى بالقاضي العدل يومَ القيامة فيلقى من شِدة الحساب ما يَوَد أنّه لم يكن قاضيًا بين اثنين‏)‏ وهو متجه، فإن العدل في الغالب لا يسلَم عن تقصير في الاجتهاد إما لِطلب الراحة، وإمّا لهوى دخل عليه من حيث لا يشعر، والعوارض كثيرة، فلذلك يشق عليه الحساب‏.‏

وفي النوادر‏:‏ عن مكحُول‏:‏ لو خيرت بين القضاء وبيت المال لاخترت القضاء، ولو خيرت بين القضاء وضرب عنقي لاخترتُ ضرب عنقي، وقال عمر - رضي الله عنه - لو علمتُ بمكان رجل هو أقوى على هذا الأمر مني لكان أن أقدَّم فتضرب َعُنقي

أحب إليّ من أن ألِيَه‏.‏ وقال يحيى بن سعيد‏:‏ وليت قضاء الكوفة، وأنا لدي أنه ليس على الأرض شيء من العلم إلاّ وقد سمعته، فأول مجلس جلستُه للقضاء، اختصم إليَّ رجلان في شيء ما سمعتُ فيه شيْئًا‏.‏ وأما ما روي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏يؤتى بالقاضي يومَ القيامة حتى يوقَفَ على شفير جهنَّم ومَلَك آخذ بقفاه، فإن أُمر أنْ يقذفهُ في النار قَذَفَه فيها، فيهوي أربعين خَريفًا‏)‏ ثم قال ابن مسعود‏:‏ لأن أقضي يومًا أحب إليَّ من عبادة سبعين عامًا‏.‏ وعن الحسن أنه قال‏:‏ لا ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ حاكم عدل يوما ًواحدًا أفضل من أجر رجل يصلي في بيته سبعين سنة، لأنه يدخل في ذلك اليوم على كل بيت من المسلمين خير، وقولهما هذا في مقادير الثواب التي لا يعلم إلاّ بتوقيف يدل على تلقيهما ذلك عن نص صحيح، ويحمل قول ابن مسعود على أنه حدثه بنفسه، فلا كلام معه‏.‏

فوائد في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ودَاوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحكُمَانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيه غَنَمُ القًوْم، وكُنَّا لحُكمهِمْ شَاهِدِينَ‏)‏‏.‏

الأولى، دخل على إيَّاسِ ابن معاوية الحسن فوجده يبكي، فسأله عن ذلك فقال‏:‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏القضاةُ ثلاثَة‏:‏ قَاضِيان في النار‏)‏ فذكر فيهم رجلًا جهل فأخطأ، فقال الحسن‏:‏ إنّ فيما أُنزل علينا لَرحمة، فذكر الآية، فقال‏:‏ أثنى الله تعالى على سليمان، ولم يذم داود بل أثنى عليه باجتهاده، قال الحسن، فلولا هذه الآية لكان الحكامُ قَد هلكوا، قال صاحب المقدمات‏:‏ والمخطئ إنما يكون له أجرٌ إذا كان من أهل الاجتهاد، وإلاّ فهو آثم لجرأته على الله بغير علم، وتقدم مثله لابن يوسف‏.‏

الثانية، قال صاحب المقدمات‏:‏ مَعنى الآية عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنه- ما‏:‏ دخل رجلان على داود صلى الله على نبينا وعليه وعلى الأنبياء أجمعين

أحدهما‏:‏ صاحب حرث، والآخر‏:‏ صاحب غَنَم، فادعى إرسْالَ الآخر غَنَمه في حرثه لئلا فلم يترُك منه شيئًا، فقضى له بالغنم كلها، فَمَرّ صاحبُ الغنم بسليمانَ، فأخبره بقضاء داود عليه السلام، فدخل سليمان على داود فقال‏:‏ يا نبيّ الله، إن القضاء سِوى الذي قضيتَ، فقال‏:‏ وكيف‏؟‏ فقال‏:‏ إنّ الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه كل عام، فلَه من صاحب الغَنَم أن يبيع من أولادها وأصوافِهَا وأشعارها حتى يستوفي ثَمن الحرث، فقال له داود‏:‏ قد أصبت‏.‏ وقال غيره‏:‏ الحرث كان كَرمًا، فَعَلى هذا تدل الآية على أنّ المصيبَ واحد، كما قاله ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏ ونقله القاضي عبد الوهاب عن مذهب مالك، وحكى عنه صاحب المقدمات‏:‏ تصويبَ الجميع، وأجاب بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وَكُلًا آتَيْنَا حُكْمَاً وَعِلْمًَا ‏(‏فلو أخطأ ما أوتي حكمًا وعلماً، وجوابه أنّ الحكم المؤتَى ومالق من هذه القضية‏.‏

الثالثة، أنّ حكم داود عليه السلام لو وقَع في شرعنا أمضيناه، لأن قيمةَ الزرع يجوز أن يؤخذ فيها غنم لأن صاحبها فلس، أو غير ذلك، وحكم سليمان عليه السلام لو وقع في شرعنا ما أمضيناه لأنه إيجاب القيمة مؤجلة، ولا يلزْم ذلك صاحبَ الحرث، وإحَالته له على أعيان لا يجوز بيعُها الآن، وما لا يباع لا يعاوَض به في القيم، فيلزم أحد الأمرين‏:‏ إمَّا أن لا تكون شريعتُنا أَتم في المصالح وأَكملَ في الشرائع، أوْ يكون داود عليه السلام فهم دون سليمان، وهذا موضع يحتاج للكشِف والنظر حتى يفهم المعنى في، والجواب‏:‏ أنّ المصلحة زمانَهم كانت تقضي أن لا يخرج عينُ مالِ الإنسان من بلدِهِ إما لقلة الأعيان، وإمَّا لعظم ضرر الحال، أو لعدم الزكاة للفقراء بأن تقدم للنار التي تأكل القربان، أو لغير ذلك، وتكون المصلحة الأخرى باعْتبار زماننا أتم، فيعتبر الحكم كما هو قولن في حكم النسخ باعتبار اختلاف المصالح في الأزمنة، فقاعدة النسخ تشهد لِهذا الجواب‏.‏

الرابعة، قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وَكُنّا لِحُكْمِهِم شَاهِدِينَ ‏(‏المراد بالشهادة هاهنا‏:‏ العلم، فما فائدته‏؟‏ وَالتمدحُ به هاهنا بعيد لأنه تعالى لا يمتدح بحر في، وليس السياق عن هذا أيضًا حتى يعلم، والجواب‏:‏ أنَّ هذه القِصص إنّما ذكرت لتقرير أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقوله تعالى في صَدر السورة‏:‏ ‏(‏هَلْ هَذَا إلاَّ َبَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتون السحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُون‏)‏ فبسط الله القول في هذه القصص ليبين أنه - صلى الله عليه وسلم - ليس بدعًا من الرسل، وأنه يفضل مَن يشاء من البَشَر وغيره، ولا يخرج شيئًا عن حكمنا، ولا تدخل ذلك غفلة، بل عن علم، ولذلك ما فهمها سليمان دون داود عن غفلة، بل نحن عالمون، فهو إشارة إلى ضبط التصرف وإحكامه لا إلى غير ذلك، كما يقول المَلكُ العظيم‏:‏ أعرضت عن زيد وأَنا عَالِم بحضوره، وليس مقصوده سياق تهديد أو ترغيب حتى يكون المراد المكافأة، كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏قَدْ يَعْلَمُ مَا أْنْتُم عَلَيْهِ ‏(‏فيكشف أيضًا التمدح بالعلم، بل إحكام التصرف في ملكه، وكذلك هاهنا‏.‏

فرع‏:‏

قال صاحب المقدمات‏:‏ كما وجب على الناس أن يكونَ منهم قضاة وأئمةََ، وجب عليهم طاعة وُلاةِ أُمُورهم من القضاة وغيرهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم ‏(‏الآية‏.‏

الثاني في شروط مَن يولي وصفاته

وفي الجوهر والمقدمات‏:‏ ما يشترط في صحة التولية، ويقتضي عدمهُ الانفساخ، وهو أن يكون ذكرًا، لأن يقضي الأنوثة يمنع من زجر الظالمين، وتنفيذ الحق، وأن يكون حُرًا، لأن الرق نقيصة ينافي منصب النبُوةِ ويحجر سيده عليه، وعاقلًا؛ لأن العقلَ هو النور الذي يهتدي به، بالغاً؛ لتحصيل الوازع الشرعي عن اتباعِ الَهوى، مسلمًا، لأن الكفر اعظم من نقيصة الرق، عَدلًا؛ لأن العدالةَ هو الوَازع، من أهل الاجتهاد والنظر، لأن بالعلم يعتصم من المخالفة لِحدود الله، متوحدًا، لأن الكثرة في المنصِب تخرق الأُبهة، وتسقط الحُرمة، فعدم شيء من هذهِ يمنع ابتداءً، وينفسخ العقد بحدوثه‏.‏ انتهى‏.‏ وَلا يولَّى المقلد إلاّ عند الضرورة، قال القاضي أبو بكر‏:‏ فيقضي حينئذ بِفتْوى مقلد بنص النازلة، قال‏:‏ فإن قَاسَ على قوله، أو قال‏:‏ يُفهم من هذا كذا وكذا، فهو متعد، ولا يحل تولية مقلد في موضع يُوجد فيه عالم، فإن تقلد فهو جائر متعد، ولا تصلح توليةُ حاكمْين معًا في كل قضاء، ولا تصلح تولية فاسق، وقال أصبغ‏:‏ تصح توليته ويجب عزلُه، فحصول العدالة من القِسم الثاني، وجوز أبو الوليد توليةَ غير العالم ورآه مستحبًا لا شرطًا‏.‏

تنبيه‏:‏ قوله‏:‏ فإن قَاسَ على قوله فهو متعد، قال العلماء‏:‏ المقلد قسمان‏:‏ محيط بأصول مذهب مقلّده وقواعده بحيث تكون نسبتُهُ إلى مذهبه كنسبة المجتهد المطلَق

إلى أصول الشريعة وقواعدها، فهذا يجوزُ له التخريجُ والقياسُ بشرائطه، كما جاز للِمجتهد الطلق، وغيرُ محيط، فلا يجوز له التخريج، لأنه كالعامي بالنسبة إلى جملة الشريعة، فينبغي أن يحمل قوله في الكتاب على القسم الثاني فيتب وإلاَّ فمُشكل‏.‏

القسم الثاني‏:‏ ما يقتضي عدمُه الفسخ وإن لم يشترط في الصحة‏:‏ كونه سميعاً بصيرًا، لأن عدم الحواس يمنع من معرفة المقضي عَليه أولَه، ومن َسماع الُحجَج الشرعية متكلما لنظر ما في نفسه من الاستفسارات والأحكام، وعدم بعض هذه يقتضي فسخ العقد، تقدمت أضدادُها عليه أو طرأت بعده، فينفذ ما مضى من أحكامه إلى حين العزل، وإن كانت موجودة حين الحكم‏.‏

القسم الثالث‏:‏ ما لا يشترط في الانعقاد ولا في التقابل، مستحب، نحو كونه ورعاً غنياً ليس بمديان ولا محتاج، من أهل البلد، لأن الغنى يعين على التولية ويشجّع النفس، والبَلَدي أخبر بأهل بلده من الأجنبي فيعلم على من يعتمد، ومَن يجتنب، معروف النسب ليسلَم من نقيصة الطعن الكاذب، ليس من وَلدِ زِنا؛ لئلا يهتضم في أعين الناس، ولا بابن لِعان لذلك، جَزْلًا، نافذا فَطِناً، ليعرف دقائق حِجاج الخصوم ومكايدهم، غير مخدوع لعقله، ليس محدوداً في زنا لئلا يهتضم جانبُه، ولا قذف، ولا مقطوعاً في السَّرقة ذا نزاهة غير مستحي باللاَّئِمة، يدير الحقَّ عَلى مَن دار عليه، لا يبالي مَن لامَه على ذلك، حليم عن الخصوم، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما انتقم لنفسه قط، مستشيراً لأهل العلم لقوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏ما نَدِمَ مَن استشار، وَلَا خَابَ من استَخَار‏)‏ وقال أبو إسحاق بن مُحرز‏:‏ لن يأتي بما نصب له حتى يكون ذا نزاهة ونصيحة ورحمة وصلابة، ليفارق بالنزاهة التشوفَ لما في أيدي الناس، وبالنصيحة يفارقُ حالَ من يريد الظلم ولا يبالي بوقوع الغش والخطأ والغَلَط، وبالرحمة، حَال القاسِي الذي لا يرحم الصغير واليتيم والمظلوم، وبالصَّلابة من يضعف عن استخراج الحقوق وعن الأقدام على ذوي البطالة والقهر والظلم، وقال القاضي أبو محمد‏:‏ ينبغي أن يكون فطناً، متيقظاً، كثيرًا التحرز الحيل وميلهم على المغفل والناقص المتهاون، وان يكون عالماً بالشروط عارفًا بما لابد منه من العربَية واختلاف معاني العبارات، فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات‏.‏ وكذلك الدعاوى والشهادات، ولأن كتاب الشروط هو الذي يتضمن حقوق المحكوم له والشهود سمع ما فيه، فقد يكون العقد واقعاً على وجه ٍيصح أو لا يصح، فيكون له علم بتفصيل ذلك ومجمَله، وينبغي أن يستبطن أهل الدِّين والأمانة والنزاهة، فيستعين بهم على ما هو بسبيله، ويتقوَّى بهم على التوصل بهم إلى ما ينويه، ويخففون عنه فيما يحتاج إلى الاستعانة فيه من النظر في الوصايا والأحباس والقِسمَة، وأموال الأيْتام وغير ذلك مما ينظر فيه، قال الأستاذ‏:‏ وليس يكتفي بالعقل الذي هو شرط في التكليف، وهو استدلاله بالشاهد على الغائب، وعلمه بمدركات الضرورة، بل لابُد أنْ يكون صحيح التمييز، جَيّد الفِطنة، بعيدًا من السهو والغفلة، حتى يتوصل بذكائِه إلى موضع ما أشكل، وفصْل ما عضل، قال‏:‏ وليس يستحق أيضًا لزيادة في

هذا الباب حتى يستوصي بصاحبه إلى الدهاء والمكر والخبث والخداع، فإنه مذموم محذور غير مأمون إليه، والناس منه في حذر، وهو من نفسه في نَصَب، وقد أمَر عمر - رضي الله عنه - بعزل زياد بن أبيه وقال له‏:‏ كرهتُ أن أحمِلَ الناس على فضل عقلك، وكان من الزهاد‏.‏

قال صاحب التنبيهات‏:‏ الإجماع على اشتراط السمع والبَصَر إلاَّ ما يحكى عن مالك في جواز قضاء الأعمى، فغيُر معروف ولا يصح عن مالك، ومتى ولي من فقد الإسلام أو العقْلَ أو الذكورة أو الحرية أو البلوغ بجهل أو غرض فإنه لا يصح حكمه ويرد، وينفذ من فقدت منه ما عدا إذا وافق الحق إلاَّ الجاهل الذي حكم بداية، والصحيح نفوذ حكم الفاسق إذا وافق الحق، وقيل‏:‏ يرد، قال ابن يونس‏:‏ قال سحنون‏:‏ إذا كان الفقيرُ أعلمَ أهل البلد وأرْضاهم استحق القضاء، ولا يجلس حتى يغَنى ويُقضى عنه دَينُه، ولا بأس أن يستقضى ولد الزنا، يحكم في الزنا كما لا يحكم القاضي لابنه، والمحدود في الزنا يجوز حكمه فيه دون شهادته، لأن المسخوط يجوز حكمُه دون شهادته، وعن سحنون‏:‏ لا يستقضَى المعتَق خوفاً من أن تستحق رقبته فتذهب أحكامُ الناس، وقال التونسي‏:‏ قال مالك‏:‏ لا أَرىَ خِصَالَ العلماء تجتمع اليومَ في واحد، إذا اجتمع منها خصلتان وُلي‏:‏ العلمُ والورع، قال ابن حبيب‏:‏ فإن لم يكن علم وورع، فعقل وورع، فَبِالورع يَقِف، وبالعقل يسأل، وفي الكتاب‏:‏ لا يستقضَى مَن ليس بفقيه، وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ لا يستقضَى حتى يكون عارفاً بآثار من مضى مستشيراً لِذوي الرأي، وليس علم القضاء كغيره مِن العلم‏.‏ وفي المقدمات‏:‏ قال عمرُ ابن الخطاب - رضي الله عنه -‏:‏ لا يصح أن يلي القضاء إلّا من كان حَصِيف العَقل، شديداً من غير عُنف، ليناً من غير ضعف، قليل الغرة، بعد الهيبة، لا يَطَّلع الناسُ منه على عورة، ويستحب على مذهبن أن لا يكون أمياً، وليس لأصحابنا في ذلك نص، وعند ‏(‏ش‏)‏‏:‏ وجهان‏:‏ المنع، لضياع كثير من المصالح بعَدم معرفة الخطوط، والجواز، لأن سيدَ المرسلين سيدُ الحكّام، وهو أمي، ولأنه لا يلزمه قراءةُ العقود، وينوب عنه في تقييد المقالات غيره، قال‏:‏ وإنَّ للمنع وجهاً َلما فيه من تضييق الحكم، والفرق‏:‏ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم‏.‏

قال عبد الملك وغيره‏:‏ لا يكون صاحب رأي لا يعلم السُّنة والآثار، ولا صاحب علم الحديث دون الفقه والقياس، قال أصبغ‏:‏ ويعزل الجاهل إلّا أن لا يوجد غيُره، فيقر ويؤمر أن يستكثر من المشورة، وينفذ أمره في كل حين، فإن تعارض عدل مؤمن لا علم عنده بالقضاء، وعالم ليس مثل الآخر في العدالة ولم يجد غيرهما، قدم العالم إن كان لا بأس بحاله وعفافه، وإن كان غيَر موثوق به في صلاحه، ولعله يلابس ما لا ينبغي إلاّ أن يولي واحداً منهما إن وجد غيرهما، والأولى‏:‏ العدل القصير العلم، ومن جَمَعَ العدالة والعلم فلا يولَّى غيْرُه، وإن لم يكن من أهل البلَد، قال صاحب المنتقَي‏:‏ اشتراط توحد القاضي إنما هو حيث لا يجوز أن يولىَّ اثنان على وجه الاشتراك في كل قضيةٍ، لأن ذلك يؤدي إلى بقاء التظالم والعِناد بسبب اختلاف آرَائِهِما، وأما قاضيان في بلد ينفذ كل واحد منهما بالنظر فجائز بإجماع الأمة كما أنَّ الأول لا يعلم أنه وقع في زمن من الأزمان في هذه الملة، ويشكل على هذه القاعدة‏:‏ الحَكَمان في الزوجين، وفي جزاء الصيد، لأنهما يحكمان في قضية واحدة‏.‏

وجوابه‏:‏ أنها ليست ولاية، قال‏:‏ فإن اتفقا نُقصَ حكمهما، وإن اختلفا لم ينفذ، وحَكَمَ غيُرهما، فليس في ذلك مضرة، وعن سحنون‏:‏ لا يحكُم المحدود في الزنا كشهادة بِجامِع التهمة في المشاركة في النقيصة، ووافقنا الحنابلة في جواز كونه أميا، وزادوا معرفَته بلسان أهل ولايته في شروط الكمال، ونحن ما نخالف

في ذلك، ووافقنا الأئِمة فيما تقدم من المشهور في شروط الصحة والكمال إلا للذكورة والعلم فعن الحنفية‏:‏ تَجوز ولايةُ العامِّي ويستفتي الفقهاء ويحكم، ولا تفوت المصلحة، لنا‏:‏ قوله تعالى‏:‏‏)‏ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أرَاكَ الله ‏(‏وهذا يتضمن الاجتهاد، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ ‏(‏بَم تحَكم‏؟‏ قال بكتاب الله، قال‏:‏ فإن لم تجد، قال‏:‏ بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ قال فإن لم تجد، قال‏:‏ أجتهد رأيي‏)‏ فلم يذكر التقليد، فدل على أنَّ الحكم به غير مشروع، ويؤكد ذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم - في الحديث‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي وفَّق رسولََ رسول الله لِمَا يرضاه رسولُ الله‏)‏ فَدل على أنّ ترك التقليد هو الذي يُرضي رسول - صلى الله عليه وسلم -‏:‏وقوله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏إذَا اجْتَهَدَ الحاكِمُ فأَخْطأ فَلَهُ أَجْرٌ، وإن أصَابَ فَلَهُ أَجْرانِ‏)‏ يدل على أنَّ منصب الحاكم الاجتهاد‏.‏ وعند ‏(‏ح‏)‏‏:‏ يجوز أن تكون المرأة حاكماً في كل ما تجوز فيه شهادةُ النساء، وجوَّز الطبري مطلقاً، وعند ‏(‏ح‏)‏‏:‏ تقبل شهادة النساء في كل شيء إلاّ في الحدود والجَراح‏.‏ لنا قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏ما أفْلَحَ قوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إلَى امْرَأةٍ‏)‏ وفي حديث‏:‏ ‏(‏لا يُفلحُ قَوْمٌ وليتهم امْرأة، فإذا لَمْ يُفلِحوا أفسَدوا‏)‏ وقوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏أخِّرُوهُن من حَيثُ أخَرَهُنَّ الله‏)‏ وهذا غاية النقص لهن، ومُنعت أن تقوم بجَنب الرجل

في الصلاة خوفَ الفتنة، فالقضاء لأنه موطن ورود الفجار أولى ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ ‏(‏إذا ناب أحدَكم في صَلاَتِهِ شيءٌ فليسبِّح، فإنَّ التَسبيحَ للرِّجال، والتَّصفِيقَ لِلنّساءِ‏)‏ فمنع من صوتها لأنه عورة، فيمتنع في القضاء أولى وَقياساً على الإمامة العظمى‏.‏ احتجوا بأنها صحت شهادتُها فتصح ولايتُها، كالعدل، ولأن ولاية الأحكام ومأخذها تَتَأَتَّى من الَمرأة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏خُذُوا شَطْرَ دينِكُم عَن هذهِ الُحميرَاء‏)‏ يعني عائشة - رضي الله عنه - ا‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ الفرق بأن الشهادة أخفض رتبة من القضاء لأنها تصح شهادتَها دون الإمامة العظمى، والعدل يصح منه الأمران، ولذلك لم يسمع في عصر من الإعصار أنَّ امرأة وليت القضاء فكان ذلك إجماعًا، لأنه غبر سبيل المؤمنين‏.‏

والجواب عن الثاني‏:‏ أَنها يمكنها ضبط ما تحتاج في الصلاة مع أنها لا تكون إمَاما فيها، وأمَّا ما رواه مالك استس أم سليمان قلدَها بعض الصحابة على السوق، فذلك في أمر جَرى من الحبشة على قوم مخصوصين فلا يلحق به القضاء‏.‏

الثالث في صفة تقاليد الولايات السابقة عليها

واختلاف أحكامها المترتبة عليها، ولنقتصر من الولايات على مهمتها وهي سبعة‏:‏

الولاية الأولى‏:‏ الخلافة العظمى، وهي الولاية، وهي واجبة إجماعاً إلا الأصَمّ، ووجوبها على الكفاية، أما وجوبها‏:‏ فلقوله تعالى‏:‏‏)‏ أَطِيُعوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُم‏)‏ فطاعتُهم فَرعُ وجودهِم، وما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب، ولما في مسلم‏:‏ ‏(‏اسْمَعُوا وَأطِيعُوا وَلَو كَانَ عبداً حَبَشِياً‏)‏ ولأن عدمَها يُفضي إلى الهرْج والتظالم، وذلك يوجب السعيُ في إزالته، ولاَ طَريقَ في مجرى العادة إلاّ الإمامة، وأما كونها عَلَى الكفاية، فلأن القاعدة أنَّ كل فعل تتكرر مصلحته بتكررها فهو على الأعيان، ومَا لاَ فَعَلَى الكفاية، فالأولَى كالصلوات، مقصودها‏:‏ الثناءُ على الله تعالى وتعظيمهُ، وذلك يتكرر بتعدد المصلّين فشرع على الأعيان تكثيرًا للمصلحة‏.‏

والثاني‏:‏ كإنقاذِ الغرقَى فإن النازل لك بعد الإنقاذ لا يحصّل مصلحة،

فشرعت على الكفاية نفياً لفعْل العَبثِ، وقد تقدم بسطُ هذه المقدمات في مقدمة الكتاب، فإن قَامَ بها واحد سقط فرضُها وَإلاَّ فلا‏.‏ قال الماوردي الشافعي‏:‏ يخرج من الناس فريقان أهل اختيار الإمام، وأهل الإمامة حتى يختار الأول شخصاً من الفريق الثاني، ولا حَرج على بقية الأمة في تأخير الإمامة، كما اتفق في خلافة عثمان - رضي الله عنه -، لأن فرض الكفاية إنما يأثَم بتأخيره مَن هو أهل له، فلا يأثم بتأخير الجهاد النسوان، ولا يترك إنقاذ الغريق مَن لا يعُوم‏.‏ قال ابن بشير منا في كتاب النظائر له‏:‏ وشروط المختارين للإمام ثلاثة‏:‏ العلم بشروط الإمامة، والعدالة، والحكمة والرأيُ الموديان للمقصود، واختيار من الأصلح الناس وأقوم بالمصالح، وقاله الماوردي، ثم ليس لمن في بلَدِ الإمام مزيةٌ على غيره من أهلُ البلاد‌‌‌، وإنما قُدم في العرف أهلُ بلد الإمام لأنهم أعلم في العادة بمن عندهم وشرائط الفتوى، والكفاية في المعضلات، وقال الماوردي من الشافعية‏:‏ شرائطها سبعة‏:‏ العدالة، سلامةُ الحواس، وسلامة الأعضاء من نقص يمنع استيفاء الحركة، والشجاعة، والنسب القُرَشي وهو مُجمع عليه إلا ضرار فإنه جَوَّزَهَا في جميع الناس

لنا‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الأئِمَّةُ من قريش‏)‏ والمبتدأ يجب انحصاره في الخبر، وقال

صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَدِّموا قُرَيشاً وَلاَ تَقَدَّمُوهَ‏)‏ والعلمُ المؤدي للاجتهاد في النوازل وصحة الرأي، وينعقد باختيار أهل الحَل والعَقد كعثمانَ - رضي الله عنه -، وكانوا ستةً عيَّنهم عثمان - رضي الله عنه عنهم- واختلف في عددهم، فقيل‏:‏ لا بد من جمهور أهل الحل والعقد من كل بلَد، ليكون الرضا به عاماً، وهو يطل بِبيعة أبي بكر - رضي الله عنه - لأنها انعقدت بالحاضرين، ولم ينتظر غائب، وقيل‏:‏ وكذلك يربع في الشُورَى، وقيل‏:‏ لا بد من خَمْسة، أو يَعقِدها أحدُهم برضاهم، لأن بَيعة الصديق انعقدت بخمسة ثَّم بَايَع الناس، وهم عُمر أبو عبيدة بن الجراح وأَسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة، ولأن الشورَى كانت في ستة لا تعتقد لأحدهم برِضا الخمْسة، وعليه أكثر الفقهاء والمتكلمين من المبصرين، وقال بعضُ الكوفيين‏:‏ ثلاثة يتولاها أحَدهم برضا اثنين ليكونوا حاكما شاهدين كعَقد النكاح، وقيل‏:‏ واحد، لأن العباس قال لعلي - رضي الله عنهم- أجمعين‏:‏ امدُد يدك أبايعك فيقولَ الناس‏:‏ عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بايَعَ ابنَ عمه فلا يختلف عليكَ اثنان ولأَنه حُكم، فحكم الواحد يكفي، فهذا أربعة مذاهب، ويقدم أهل الحد والعقد أكثر المستحقين فضلاً، وأكملَهم شرطاً مِمَّن يسْرع الناسُ إلى طاعته، فإذا عيَّنوه عَرضوهَا عليه فإن أجاب بايَعوه، ولزم جميعَ الأمة الدخول والانقياد، فإن امتنع الجميعُ يقدم الأسن، فإن بويع الأصغر جاز، ويراعى تقديم الأشجع على الأعلم‏.‏ أو العكس على ما يقتضيه الوقت من الحاجة إلى القتال، أو المناظرة على الدِّين مع أرباب الأهواء، فإن اختاروا واحداً من اثنين فَتَنَازَعَاها‏:‏ قيل‏:‏ يكون ذلك قدْحاً فيهما، لأن من طلب الولاية لم يعَن عليها، فيعدل إلى غيرهما، وقال الجمهور‏:‏ لا يقدح وقد

تنازع فيها أهلُ الشورَى فما رد عنها طالب، واختلف فيما يقطع به التنازع مع التساوي، فقيل‏:‏ القرعة‏:‏ باختيار أهل البَيعة من غير قرعة، لأنها ولاية لهم، وحَكَى ابنُ بَشِير القولين عندنا، فإن ظهر بعد بيعة الأفضل مَن هو أفضلُ منه لم يعدل عن الأول لصحة عقده، وإن ابتدأ بالمفضول لغيبة الأفضل، أو مرضه، أو كون المفضل أطوع في الناس صح، أو لغير عزر، فقال الجاحظ وغيره‏:‏ لا ينعقد لفساد الاجتهاد بالتقصير، وقال الجمْهور‏:‏ ينعقد كما يجوز ذلك في القضاة يولى المفضول، ولحصول شرائط الصحة، ولأن الزيادة من باب التتمة لاَ مِن باب الحاجة، فإن تعين واحد بالاتصاف بالشروط تعينتْ فيه، وامنع العدولُ عنه، قال ابن بشير‏:‏ وهل ينعقد بغير بيعة لأن مقصود العقد الاختيار وهذا متعين، أو لا بُد من العقد، قاله الجمهور، كالقضاء لا بد لهُ من عَقد، ويأثم أهل العقد إذا امتنعوا، وقال الفريق الأول يصير المنفرد قاضياً من غير عَقد، كما يصير المنفرد بشروط الصلاة إمَاما، والفرق‏:‏ أن القضاء وِلاَيةٌ خاصة، يجوز صرفهُ عنها مع بقائه على صفته، والولايةُ حق عام لا يجوز عزل المتصف بشروطها بعد ولايته‏.‏

فرع‏:‏

قال الماوردي‏:‏ إذا عقدت لاثنين ببلديْن لم تنعَقِد إمامتُهما لامتناع إمامين في وقت، فقد قال‏:‏ ‏(‏إذا بُويعَ لَخَليفَتَين فاقتُلُوا الأخِرَ مِنهُمَا‏)‏ وجوزه من شذ، واختلف في الإمام منهما فقيل‏:‏ الذي في بلد الإمام الميت، لأنهم بعقدها أخص وأحق، وعلى سائر الأمصار تفويضها إليهم، لئلا ينتشر اختلاف الآراء وقيل‏:‏ على كل واحد التسليم للآخر دفعاً للفتنة، ليختار أهل العقد أحدهما أو

غيرهما، وقيل‏:‏ يُقرع بينهما، والمحققون على تقديم السابق بيعه كالوالدين في نكاح المرأة إذا زوجاها باثنين فإن أبقى السبق فسخ العقدان، وإن أشكل السابق وقفا على الكشف، فإذا تنازعا السبق لم يحلف المدعي ولا غيره لأن الحق للمسلمين ولا حكم لليمين للنُكول، ولو سلمها أحدهما للآخَر فلابد من بينة تشهد بِتقدمه، فإن أنكر له بالتقدم خرج المقر ولم يستقر للآخر إلاَّ بِعقد، لحق المسلمين، والإقرار لا يعتبر إلاّ في حق الإنسان الخاص به، فإن شهد مع شاهد آخر سمع فإن دام الَّلبس في التقدم لم يقرع بينهما، لأن الإمامة عَقد، والقُرعة لا تدخل في العقود، لأنها لا تدخل إلاّ فيما الاشتراكُ فيه كالأموال دون ما يمتنع كالمناكح فيبطل فيهما‏.‏ قال ابن بشير فيما إذا تنازعاها ابتداء هل يقر أز هي لأولهما، أو يقدم الذي في بلد الإمام‏؟‏ ثلاثة أقوال كما تقدم للشافعية‏.‏

فرع‏:‏

قال الماوردي‏:‏ وانعقادها بعهد من قبله، مجتمع عليه لعهد الصدِّيق لعمر - رضي الله عنه - ما، ولعهد عمر إلى أهل الشورى، فخرج جميع الصحابة من الشورَى، وعلى الإمام بذل الجهد فيمن يصلح، وينفرد بالعقد لغير الولد والوالد، واختلاف أهل الرضا من أهل الحل والعقد شرط أم لا وهو الصحيح، لأن بيعة عمر لم تتوقف على رضا الصحابة، قال ابن بشير‏:‏ وفي جواز تفرده بالولد أو الوالد خلاف، فقيل‏:‏ لا بد من الاستشَارة فيرونه أهلاً لأنها تزكية من الإمام تجري مَجرى الشهادة له وَالحكم له والجواز، لأنه أمين الأمة فلا‏.‏

يقدح التهمة ولا لجِواز الولد دون الولد لمزيد التهمة، ويجوز للأخ ونحوه كالأجنبي، قال الماوردي‏:‏ ولا بد من قَبول المولى، وزمان القَبول قيل بعد الموت لأنه أثبت نظراً، والأصح أنه ما بين عهد المولى وموته حتى لا تتعطل المصالح، وليس له عزلُه ما لم يتغير حالهُ، بخلاف جميع نوابه، لأنهم لحق نفسه، وهذا لحق المسلمين، كما لا يعزل لهما للعقد من بايعوه إذا لم يتغير حالُهُ، فلو عهد بعد عزل الأول الأخر بطل الثاني‏.‏ فالأول باق، ولا يصح الثاني بخلع الأول نفسه، وإذا استعفَى وليُّ العهد لم يبطل عهده حتى يعفَى لَلزومِه، ويجوز إعفاؤه واستعفاؤه إن وجد غيره، وإلاّ فلا وَتُعتبر شروطُ الإمامة في المعهود إليه وقتَ العهد، فلا ينعقد العهدُ للصغير ولا للفاسق عند العهد، وليس لولي العهد الرد إلى غيره لأن الخلافة لا تستقر له إلاّ بعد الموت، أو بخلع الخليفة نفسَه، فينتقل إلَى وَلي العهد، ولو عهد إلى اثنين اختار أهل الاختيار أحدها كأهل الشورى، لأن عمر - رضي الله عنه - جعلها في ستة، ويجوز للخليفة بيعة فلان، فإن مات ففلان، وتنتقل الخلافة كذلك، كما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش مؤتة زيد بن حارثة، وقال‏:‏ ‏(‏فإن أصيبَ فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله ابنُ رواحة‏)‏‏.‏

فرع‏:‏

قال ابن بشير‏:‏ إذا مات ولي العهد قبل الخليفة، هل له أن يعهد لغيره‏؟‏ قولان، وكذلك إذا فسق الخليفة ثم تاب، هل يتوقف عوده على تجديد عهد

فوز، وإذا حَدس له خرس، أو صممٌ، أو ذهبت إحدى عينيه، فهل يخرج منها‏؟‏ قولان‏.‏

فرع‏:‏

قال الماوردي‏:‏ إن استولى على الخليفة بعض أعوانه لا يقدح ذلك فيه بخلاف القهر بأسر العدو، كان العدو مشركاً أو مسلماً، فقدح لفرط القهر، وإن خلص قبل الإياس منه عادات إمامتُه، والفرق بين الأسر والقهر من بعض الأعوان‏:‏ أنّ بَيعَتَه على ذلك العون، فإمَامته باقيه‏.‏

الولاية الثانية‏:‏ الوزارة‏.‏ قال ابن بشير‏:‏ يجوز التفويضُ في جميع الأمور إلى وزير، ويختص عن الخليفة بثلاثة أشياء‏:‏ لا يعهد لمن يشاء أن يستعفي من الإمامة، ولا يعزل من قلده الإمام، واصلها قوله تعالى‏:‏ ‏(‏واجْعَل لِّي وَزيراً مِن أَهلِي هَارُونَ أخِي، اشددْ بِهِ أزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أمري‏)‏ قال الماوردي‏:‏ الوزارة قسمان، وزارة تفويض ووزارة تنفيذ، فالأول مَن جعل له الاجتهاد في الأمور، وتشترط فيه شروط الإمامة إلاّ النسب، لأن عموم الاجتهاد يحتاج إلى ذلك، وعقدُها بصريح لفظ الخليفة بعموم النظر والنيابة، فإن اقتصر على عموم النظر فهو ولي عهد ولا وزير، أَو على النيابة فقد أَبهم التنفيذ والتفويض فلا تنعقد، واللفظ المعتبر‏:‏ قلدتك ما إليً نيابةً عني، ويقول‏:‏ استوزرتك تعويلاً على نيابتك، فإن قال‏:‏ نُبْ عني، احتمل الانعقاد وعدمه لأنه أمرٌ لا عقد، مع أنه ليس يراعَى في الخلفاء والمُلُوك مَا يراعى في غيرهم لاستثقالهم الكلام، فربما اكتفوا بالإشارة،

ولقلة مباشرتهم العقود، وقلدتك وزارتي أو الوزارة، لا تُفيد وزارة التفويض، حتى يريد ما يستحق به التفويض، لأن موسى عليه السلام زاد‏:‏ ‏(‏أشدُدْ بِه أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أمْرِي ‏(‏قال ابن بشير‏:‏ الصرائح أربعة‏:‏ ولّيتك، وقَلّدتّك، واستخلفتك‏.‏ واستنبتُك، وكنايته سبعة‏:‏ اعتمدتُّ عليك، وعوّلتُ عليك، ورددتُّ إليك، وجعلت، وفوضت إليك، ووَكَلتُّ إليك، واسْندت إليك، فتحتاج هذه لما ينفي عنها الاحتمال، قال الماوردي‏:‏ وعَلَى هذا الوزيرِ مطالعَةُ الإمام بما تصرف، لئلا يكون إمَاماً، وعلى الإمام تصفُّحُ تصرفاته، لأنه من جملة رعيته، ويجوز له مباشرة الجهاد،وولاية الحكام، وغير ذلك، وله الاستنابة في ذلك، لأن شروط جميع ذلك مشترطة في أهليته، ووزير التنفيذ هو الذي ينفذ ما دبره الإمام، فهو واسطة بين الإمام والرعية، يبلغ ما دبره الإمام ويعرض عليها مَا حدث من الأمور، ولا يفتقر إلى تقليد بل الإذن، ولا يشترط فيه الحرية ولا العلم، لأنه يتصرف، بل مبلغ، بل اشترط فيه سبعة أوصاف‏:‏ الأمانة‏.‏ والصدق‏.‏ وقلة الطمع، وعدم العداوة بينه وبين الناس، والذكورة، والفطنة، وأن لا يكون مبتدعاً، فإن شارك في الرأي اشترطت فيه الحكمة، والتجربة، ومعرفة العواقب، ويجوز أن يكون ذمياً، ويجوز أن يكون اثنين على الاجتماع والافتراق، بخلاف وزير التفويض، لأن عموم النظر يمنع من ذلك كإمامَيْن، ويجوز مع وزير التفويض وزير تنفيذ، ويجوز لوزير التفويض الاستنابةُ عنه بخلاف الآخر‏.‏ وإذا

فوضت الأقاليم إلى ولاته كأهل زمانن جاز لكل مَلِك أن يوزر كالخليفة في الشروط المتقدمة‏.‏

فائدة، في اشتقاق الوزير ثلاثة أوجه‏:‏ من الوزَر بتحريك الزاي المنقوطة، وهو الملجأ، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏كَلاَّ لاَ وَزَرَ‏)‏ وملك يلجأ إليه، أو من الأَزر لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏اشدُدْ به أَزْرِى‏)‏ أو من الوزر وهو الظهر، لأنه يقوى بالوزير كقوة البدن بالظهر‏.‏

الإمارة الثالثة‏:‏ الإمارة على البلاد، قال الماوردي‏:‏ هي عامَّة وخاصة، فالعامة استكفاء واستيلاء‏.‏ فالاستكفاء ما عُقد على اختيار‏.‏ والاستيلاء ما عقد عن اضطرار، فيفوض في الاستكفاء النظر في بلد أو إقليم في جملة ما يتعلق به، وتتعين فيه شروط وزارة التفويض لعموم النظر في ذلك العام، ولفظه‏:‏ قلدتك ناحية كذا إمارة على أهلها، ونظراً في جميع ما يتعلق بها، وللوزير تَصفُّحُ الأمر، وللأمير أن يستوزر وزير بإذن الخليفة، ولا ينعزل الأمير بموت الخليفة بخلاف الوزير، لأنه نائب الخليفة، والأمير نائب المسلمين وهم باقون‏.‏

والإمارة الخاصة، هي تدبير الجيوش، وسياسة الرعية، وحماية البيضة، والذبّ عن الحريم، فليس له التعرض للقضاء والأحكام وجبايَة الخراج، والزكاة، ولا إقامة حد فيه خلاف للعلماء، ولا ما يُحتاج فيه إلى بينة لأجل المنازعة، لأنها من الأحكام الخارجة عن ولايته، وغيره من الحدود التي هي حق لله، فهو أولى بها من الحاكم لأنه به إليه قانون السياسة العامة، وهو أحق بإمامة الجُمع والأعياد من القضاة عند ‏(‏ش‏)‏، والقضاة عند ‏(‏ح‏)‏ لأنهم أهل العلم، ويعتبر في شروط هذه الإمارة شروط ولاية التنفيذ، وشرطان‏:‏ الإسلامُ والحرية لما تضمنها من الولاية على أمور دينية، وليس على هذين الأميرين مطالعة الخليفة بما أَمضياه، إلاّ أن يَحدُث غير معهود‏.‏

وإمارة الاستيلاء‏:‏ أن يستولي الأمير بقوته وقهره على بلاد فيفوض إليه‏.‏ فهو متصرف استيلائه، والخليفة منفذ لذلك ليخرج عن الفساد وعن الحَظر للإباحة، ويجب هذا التنفيذ لما فيه من المصالح الدينية، وإقامة حرمة الإمامة، وظهور الطاعة، واجتماع الكلمة، فإن لم يكن فيه شروط الاختيار فيقلد لدفع فساد العناد، وليس له أن يوزر وتفويض‏.‏‏.‏

الولاية الرابعة‏:‏ ولاية الجهاد، وهي قسمان‏:‏ خاصة مقصورة على سياسة الجيش، وتدبير الحرب، فشروطها شروط الإمارة الخاصة، وعامة في ذلك وفي قَسم الغنائِم، وعَقد الصلح، فيشترط فيها شروط الإمارة العامة‏.‏

الولاية الخامسة‏:‏ القضاء‏.‏ قال ابن بشير‏:‏ لانعقاد الولايات مطلقاً ثلاثة شروط‏:‏ العلم بشرائط الولاية في المولّى، فإن لم يَعلَمها إلاّ بعد التقليد استأنفه، الثاني‏:‏ ذكُر المولي له، كالقضاء والإمارة، فإن جهل فسَدت، وذكرُ البلد ليمتاز عَن غيره، وقاله الشافعية، وتقدم له في ولاية الوزارة أنّ صرائح ألفاظ الولايات مطلقاً‏:‏ أربعة، وكناياتها‏:‏ سبعة‏.‏

ثم هاهنا بحثان في الولاية العامّة الخاصة، وهو التحكيم‏.‏

البحث الأول‏:‏ في الولاية العامة، قال صاحب المتقدمات‏:‏ يجب أن لا يولَّى القضاءَ مَن طلبه، وإن اجتمعت فيه الشروط، مخافةَ أنْ يُوكَل إليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّا لا نستعمل على عَمَلنا مَن أراده‏)‏ قال اللخمي‏:‏ إقامة الحكم للناس واجب، لأنه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فَعلى ولي الأمر أن ينظر في أحكام المسلمين إن كان أهلاً، أو يقيم للناس من ينظر، فإن لم يكن للموضع ولي أمر، كان ذلك لذوي الرأي والثقة، فمن اجتمع رأيُهم عليه أنه يصلُح أقاموه، ومَتَى كان بالبلد عدد يصلُحون فقام واحد سقط عن الباقين، فإن لم يكن إلاّ واحد يصلُح تعين عليه وجوباً الدخول فيه، وقاله الأئِمة، وقالوا‏:‏ يجب على ولي الأمر إجبارهُ على ذلك، لأنه حق الله تعالى في ضبط مصالح الملة‏.‏

فرع‏:‏

قال الشافعية‏:‏ يجوز انعقادُ ولاية القضاء بالمكاتبة والمراسلة كالوكالة وقواعدنا تقتضيه، قالوا‏:‏ فإن كان التقليد باللفظ مشافهةً فالقبول على الفور لفظاً كالإيجاب، وفي المراسلة يجوز التراخي بالقَول، وفي القبول بالشرع في النظر خلاف، وقواعدنا تقتضي الجواز، لأن المقصودَ هو الدلالة على ما في النفس‏.‏

فرع‏:‏

قال الشافعية‏:‏ إذا انعقدت الولاية لا يجب عند المتولي النظرُ حتى تشيع الولاية في عمله ليذعنوا لطاعتِه، وهو شرط أيضاً في وجوب الطاعة، وقواعد الشريعة تقتضي ما قالوه، فإن التمكن والعلم شرطان في التكليف عندنا وعند غيرنا، فالشياع يُوجب المُكنة له، والعلم لهم‏.‏

فرع‏:‏

قال الشافعية‏:‏ تجوز الولاية على شخص معيَّن فيحكم بينهما كما تشاجرا، أو يوماً واحداً في جميع الدعاوى، وتزول ولايتُه بغروب الشمس، أو في كل يوم سَبْت، فإذا خرج يومُ السبت لم تبطل وِلايتُه لبقائها على أمثاله، وقواعدنا تقتضي جميع ذلك‏.‏

تنبيه‏:‏ إذا ولي قاض كُتب له تقليد يؤمر فيه بتقوى الله تعالى وطاعته، والتثبت في القضاء، ومشاورة العلماء، وتصفح أحوال الشهود، وتأمل الشهادات، وحفظ أموال الأيتام، والقيام بأمورهم، والنظر في الأوقاف، وغير ذلك مما يفوض إليه ليكون ذلك دستوراً يعلَم به ما يُقَّلده فيعمل عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كَتب لعَمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، وكَتب أبو بكر الصديق لأنَس - رضي الله عنهم- أجمعين حين بعثه إلى البحريْن كتاباً وخَتمه بخاتَم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكَتب عمر - رضي الله عنه - إلى أهل الكوفة‏:‏ أما بعد‏:‏ فإني بَعثتُ إليكم عماراً أميراً قاضياً ووزيراً، فاسمعوا له وأطيعوا، فقد آثرتكم به‏.‏

المبحث الثاني‏:‏ في الولاية الخاصة وهي التحكيم‏.‏ وفي الجواهر‏:‏ جائز في الأموال وما في معناها، فلا يقيم المُحكَّم حداً، ولا يلاعن، ولا يحكُم في قصاص أو طلاق أو عتق أو نسب أو ولاء لقصور ولايته وضَعفها، وهذه أمُور عظيمة تحتاج إلى أهلية عظيمة إلاّ ولاة الأمور غالباً وآحاد الناس فأملس النظر عن

ذلك، وبِجوازِ التحكيم قال الأئِمة لما في النسائي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي شريح‏:‏ ‏(‏إنَّ الله هو الحَكَم، فلِمَ تكنى أبا الحَكَم‏؟‏ قال‏:‏ إنّ قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمتُ بينهم، فرضي كِلاَ الفريقيْن بحكمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أحسن هذا، فمن أكبرُ وَلَدك‏؟‏ قال‏:‏ شريح‏:‏ قال‏:‏ فأنتَ أبو شُرَيح‏)‏ وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَن حَكم بين اثنين تَرَاضَيا فلم يَعدِل بينهما فهو مَلعون‏)‏ وهو دليل الجواز والإلزام، وإلاّ لما لُعن، لأن لهما تركَ حكمه إذا كان جَوراً، وتحاكم عمرُ وأبي وأبي زيد، وحاكم عمر أعرابياً إلى شُريح قبل أن يوليه، وتحاكم عثمانُ وطلحة وجبيرُ بن مطعم ولم يكونوا قضاة ولا، فقال عمر وعثمان - رضي الله عنه - ما خليفتان، فإذا حكَّما أحداً صار قاضياً، لأنا نقول‏:‏ الرضا بالصورة الخاصة لا يصير بها أحدٌ قاضياً‏.‏ وقال ‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل‏:‏ لا ينقض حكمُه، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ إن خالف رأي قاضي البلد له نقضُه، وبالأول قال أصحابنا‏.‏ لنا‏:‏ الحديث المتقدم، والقياس على قاض آخر معه في البلد، ولأنه عَقد فيندرج في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏أَوْفُوا بِالعُقُود‏)‏ وعن ‏(‏ش‏)‏ وابنِ حنبل‏:‏ لا يجوز حكمه في أربعة‏:‏ النكاح، واللعان‏.‏ والقصاص‏.‏ والقذفِ، ويجوز فيما عداها، ومنع

‏(‏ح‏)‏ في الحدود‏.‏

تنبيه‏:‏

أكثر الأصحاب يقولون‏:‏ إذا حكَّم الرجلان رجُلاً ولا ينكر شرائطهوصرح الشافعيةُ والحنابلة بأن من شرطه صلاحيته للقضاء، قال القاضي عبد الوهاب‏:‏ إذا حكم الرجلان رجلاً من أهل الاجتهاد، قال اللخمي‏:‏ من شرطه أنْ يكون عدلاً من أهل الاجتهاد أو عامّياً ليسترشد العلماء، فإن لمْ يسترشدهم لم يجز حكمه، ويرد وإن وافق قول قائل، لأن الحكم عند عدم الاسترشاد مخاطرة فترد المعاملات وإذا كان من أهل الاجتهاد، ومالكياً، ولم يخرج باجتهاده عن مذهب مالك، لزم حكمُه، وإن خرج والخصمان مالكيان لم يلزمهما لأنهما إنما حكَّماه ليحكم على مذهب مالك، وكذلك الشفيعان، الحنفيان، وهذا الكلام يقتضي أنّ مراده بالاجتهاد، الاجتهاد في مذهب معين، ولا الاجتهاد على الإطلاق، قال ابنُ يونس‏:‏ قال عبد الملك ومطرف‏:‏ إذا حكَّم أحد المتنازعيْن الآخَرَ فحكم لنفسه، أو عليهما، جاز ومضى ما لك يكن جوراً، وليس لتحكيم خصماً القاضي، لأن الولاية العامة اشد تصوناً عن أنساب الريب، وقال أشهب‏:‏ إن حكَّما امرأة أو عبداً أو مسخوطاً مضى، لأنه حق يختص بهما قلنا التصرف فيه، والولاية العامة حق المسلمين، وأما الصبي والنصراني والمعتوه والمسوس، فلا يجوز وإن أصابوا، لتناول الحكم من غير سببه، ومنع سحنون‏:‏ الصبي، والمرأة والمسخوط، والكاتب، والذمي، وأبطل حكمهم، ولو حكَّما رجلين فحكم أحدهما دون الآخر، لم يجز، وقاطع إذا حكما دون البلوغ جاز حكمه إذا عقل، وعلم فيه غلام لم يبلغ له علم بالسنة والقضاء، وفي الجواهر‏:‏ قال أصبغ‏:‏ لا أحب تحكيم خصم القاضي، فإن وقع مضى ذلك، ويذكر في حكمه رضاهُ بالتحكيم إليه، وهذه

النُّقول كلها دائرة على مشابهة التحكيم للقضاء يشترط جميع الشروط المطلوبة في القضاء، أو يلاحظ خصوصَ الولاية دون عمومها، أو كونه مختصاً بمعيَّن‏.‏

فرع‏:‏

قال ابن يونس‏:‏ قال سحنون‏:‏ إذا حَكم فيما ليس له من أحكام الأبدان نقض حكمُه، وينهى عن العوْدَة، فإن فَعَل ذلك ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فقتل أو اقتص أو ضرب الحدَّ أدَّبهُ السلطان وأمضى حكمَه وبَقي المحدودُ محدوداً والملاعِن ماضياً، قال اللحمي‏:‏ أو أمكن من نفسه أضربي خدك، أو خذ قَودك، لم يصلح إلاّ بالإمام، وكذلك النفس، وأما الجراح‏:‏ فيجوز أن يقيد من نفسه إن كان نائباً عن الإمام‏.‏

فرع‏:‏

قال ابن يونس‏:‏ قال القاسم‏:‏ إذا حكماه وأقاما البينة عندَهُ ليس لأحدهما رجوع إذا أبْلى ذلك صاحبه، لأنه حق له وجب براحته من نظر القضاة‏.‏ وللحديث المُتَقدّم، قاله ‏(‏ح‏)‏ وعن سحنون‏:‏ لكل واحد منهما الرجوع ما لم يمض الحُكم كالوكالة، وقال ‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل‏:‏ لا يلزمهما الُحكمُ إلاّ برضاهما لئلا يكون ذلك عزلاً للقضاة وافتياتا عليهم، لأن رضاهما معتبر ابتداء فاعتبر في اللزوم قياساً لأحدهما على الآخر، وفي الجواهر‏:‏ لكل واحد الرجُوع ما لمْ يشبا في الخصومة أو يوكل وكيلاً أو يعزله، وقال عبد المَلِك‏:‏ لا يرجع أحدُهما‏.‏ كان قبل أن يعاقد صاحبه أو بعد ما قاسمه الخصومة‏.‏

تنبيه‏:‏ قال اللخمي‏:‏ إنما امتنع التحكيم في تلك الأمور، لأن فيها حقاً لغير الخصمين، إمَّا لله تعالى كالطلاق والعتق، أو لآدمي وهو الولَد في اللعان، وفي

النسب والولاء حقاً لمن يأتي بعد، ويحتمل أن يحكم بعد أسباب تلك الأمور، ولو رفع ذلك لِمَن نصب للناس بعد الطلاق والعتق، ورفع يد الزوج والسيد، لأنه حق من حقوق الله تعالى، ويحرم رضا الزوجة بالبقاء معه، ورضا العبدِ بالرق، فإن حكم بالفراق والعتق ولم ير الآخرُ ذلك فلا يجوز إباحة الزوجةِ لغير ذلك للزوج وإن لا يجري العبد على أحكام الحرية في الموازية والشهادات، قال‏:‏ وَأرى إذا فات ذلك بالعصبة أن يرفع الأمور إلى القاضي، فإن كان فعل الأول حقاً أمضاه، وإلاَّ رده، ولا يكفي يعني الخصمين حتى يكشف‏.‏

تنبيه‏:‏ قال اللخمي‏:‏ يشترط في تحكيم أحد الخصمين الآخر أن يكون المُحكم عدلا ًومن أهل الاجتهاد، أو عاميّاً يسترشدُ العلماء، والاشتراط هاهنا أشد، لوقوع الخطر أكثر‏.‏

الولاية السادسة‏:‏ ولاية الكشف عن التظالم، قال الماوردي‏:‏ يشترط في متوليها جلالة القدر، ونفوذ الأمر، وعظيم الهيبة، والعفة والورع، لأنه يحتاج في منصبه إلى سطوة الحُماة وتثبُّت الأمر، وتَثبُّت القضاة، فلا بد من صفة الفريقين له، فيمزجُ قوة السلطنة بنصَفَ القضاة، وأول من أفْرد للظلامات يوماً عبد الملك بنُ مَروَان وكان يرد مشكلاتها أدريس الأول ذي لهيبة الناس من عبد الملك، ثم تفاقمت المظالم، وكذلك ينبغي أن يكون لها يوم معلوم ليقصِده الناس، ولْيكن الناظرُ في المظالم سهل الحجاب، ونُوه الأصحاب، ويحتاج لِخمسة في مجلسه لا بد له منهم، الحماة لجَنَف القوى العسوف، والقضاة ليعلمُوه ما يثبت عندهم من الحقوق، والفقهاء ليراجعوه فيما أشكل من الوقائع، والكُتَّاب ليثبتوا ما جرى بين الخصوم، والشهود ليشهدوا على ما تحررَ من حق وحكم به‏.‏

والفرق بين نظر المظالم والقضاة من عشرة أوجه، له من القوة والهيبة ما ليس لهم، وهو أفسح مجالاً منهم، ويستعمل فيه من الإرهاب وكشف الأشياء بالأمارات الدَّالَّة وشواهد للأحوال اللائحة مما يؤدي إلى ظهور الحق بخلافهم، ويقاتل من ظهر ظلمُهُ بالتأديب بخلافهم، ويتأنى في ترداد الخصوم عند اللَّبس له، ليمعن في الكشف بخلافهم إذا سألهم أحد الخصمين فصْلَ الحكم لا يؤخره، وله ردُّ الخصوم إذا أعضلوا إلى وساطة الأمناء ليفعلوا بينهم صُلحاً عن تراض، وليس القصَاصُ برضا الخصمين، وله أن يفسحَ في ملازمة الخصمين إذا وضحت أَمارات التجاحد، ويأذن في إلزام الكفالة فيما يسوغ فيه التكفل لينقاد الخصوم إلى التناصف ويتركوا التجاحد، بخلافهم، ويسمع المسترين بخلافهم، ويحَلّف الشهود إن ارتاب فيهم بخلاف القضاة، ويبتدئ باستدعاء الشهود ويسرهم عما عندهم في القضية بخلافهم لا يسمعون البينة حتى يريد المدعي إحضارهم‏:‏ أَو مسألته لها‏.‏

فرع‏:‏

قال الماوردي من الشافعية‏.‏ إذا ظهر كتاب فيه شهود معدَّلون حاضرون فله الإنكار على الجاحد بحسب شواهد أحواله، وإن لم يكونوا معدَّلين أو أحضرهم وسبَر أحوالَهم، فإن وجدهم من أهل الصيانات قَبِلهم، أو أراد أن لا يعول عليهم، ولكن يولى الإرهاب عن الخصم ويسأله ما سبب وضع يده‏؟‏ أو متوسطين، فله إحلافُهم قبل الشهادة وبعدها، فإن كان في الكتاب شهود موتَي يُعَدلون، والكتاب موثوق بصحته، فيرهب على المدعى عليه حتى يضْطره للصدق ويسأله عن دخول يده لعل في جوابه ما يوضح الحق بكشف من الجيران، فإن لم يتضح مع هذا كله رده إلى وساطة رئيس مطاع له بهما معرفة وبما يتنازعاه ليضطرهما بكثرة التردد إلى الصدق والصلح، فإن تعسر أمرُهما، ثبت بما يوجه حكم القضاة، وإن كان مع المدعي خط

المدعي عليه، سأل المدعِى عليه، فإذا اعترف بخطه، سأله عن صحة مضمونه، فإن اعترفَ ألزمه بإقراره، وإن لم يعترف بصحة مضمونه فقيل‏:‏ يحكم عليه بخطه لأنه – ظاهر حَال، والمحققون قالوا‏:‏ بل يسأله فإن قال‏:‏ هو فرض وما قبضته فيقوى الإرهاب، ثم يرد لِواسطة، فإن انفصلا وإلاَّ فحكم القضاة، فإن أنكر الخط أمر بمن يختبر الخط بخطوطه التي كتبها وتكفلها من كثرة الكتابة، ويمنع من التصنع فيها، فإن تشابهت بخطه حكم به عليه على قوْل مَن يجعل الخط اعترافاً، ولا من يَرَى ذلك يرى كثرة الإرهاب عليه، فإن كان خطهُ مُنافياً، رجع الإرهاب على المدعي، ثم يردانِ إلى الواسطة على ما تقدم، فإن أتى بحساب يتضمن الدعوَى، وهو حساب الطالب، وهو منتظم لا شبهةَ فيه، فيُرهب بحسب شواهد الحَالِ، ثم يردان للواسطة، وإن كان غير منتظم طرحه، أوْ حساب المدعى عليه وهو منسوب إلى خطه، يسأل‏:‏ أهو خطك‏؟‏ فإن اعترف سئل عن صحة مضمونه فإن اعترف الزمه بإقراره، وإن لم يذكر صحته، واعترف أنه خطه‏:‏ فقيل‏:‏ يحكم عليه كما تقدم في الخط، بل الثقة به أقْوى من الخط المرسل، لأن الحساب لا يثبت فيه قبض مَا لمْ يُقبض بخلاف، وقال الجمهور‏:‏ لا يُحكم عليه بالخط ولا بالحساب، بل الإرهاب والرد إلى الواسطة إلى حكم القضاة، وإن كان الحساب، منسوباً إلى خط كاتبه سئل عنه المدعى عليه قبل كاتبه، فإن أنكر سئل كاتبه وأرهِب، فإن أنكر ضعفت الشبهة، وإن أقرَّ صار شاهداً على المدعَى عليه‏.‏ هذا كله فيما يقوِّي الدعوى، فإن اقترن بالدعوى ما يضعفها وهو إما كتاب يعارضها شهوده، وحضور معدَّلون، فيرهب المدعي بحسب حاله، وإن لم يقترن بالدعوى ما يقَويها ولا ما يضعفها، لكن حصَلت غلبة ظن، صدق المدعي مع خلوه عن حُجته بأن يكون مستعلانا قليل، وَالمدعي ذَا باسٍ وقُدرة، وقد ادّعى عليه غَضب عقار، ومثله لا يغضب مثل هذا، أو يكون المدعي مشهوراً بالصدق، وخصمه بخلافه، أو يستويان في الأحوال، غير أنه للمدعَى عليه من غير حكم، ويسأله عن سبب دخول يده، فإن غلب على الظن صدق المدعَى عليه بالأَمارات المتقدمة، فلا تسمع الدعوىَ إلاّ بعد ذكر السبب، كما قاله مالك في القضاء، ويبالغ في الكشف حتى يظهرَ الحق، فإن استوت الحاَلاَنِ في الظنون سوى بينهما في الغلظ والإرهاب والكشف، فإن لم يظهر الحق رد إلى الواسطة، فإن انفصلا وإلاّ فحكم القضاة‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ إذا رُفعت الجرائم كالسرقة والزنى ونحوهما لِقاض لم يسمع لا يحبس المتهم بكشف استبراء، ولا يأخذه بأسباب الإقرار إجباراً، ولا يَسمع الدعوى إلاّ محررة بشروطها وإلّا فيروي الأحاديث، امتاز على القضاة بتسعة أوجه‏:‏ فيسمع قذف المتهم على أعوان الإمارة من غير تحقيق الدعوى المفسرة، ويرجع إلى قولهم‏:‏ هل هم من أهل هذه التهمة أم لا، فإن نَزَّهوه أطلقه، أو قذفوه بالغ في الكشف، بخلاف القضاء ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ شواهد الحال بأن يكون المتَّهمُ بالزنا متصنعاً للنساء، أو بالسرقة من أهل الزعارة، وليس ذلك للقضاة، يعجل حَبَسَ المتهم شهراً للكشف، أو يحبس ما يراه بخلاف القضاة، ويجوز له مع قوة التهمة ضربُ المتَّهم ضربَ تعْزير لا ضربَ حَد ليصدق، فإن أقر وهو مضروب‏:‏ اختبرت حالهُ فإن ضُرب ليقر فلا يعتبر إقْرارُه تحت الضرب، أو ليصدق وأعاد إقراره بعد الضرب أخذ بالإقرار الثاني، ويجوز العملُ بالإقرار الأول مع كراهة، وليس كذلك القضاة، وله فيمن تكررت منه الجرائم ولم ينزجر بالحدود استدامة حبسه إذا أضرب الناس بجرائمه حتى يموت،

وَيقُوتُه ويكسوه من بيت المال، بخلاف القضاة، وله احْلافُ المتهم لاختبار حاله، ويملك عليه الكشف عن أمره، ويحْلّفه بالطلاق والصدقة والعتاق كأَيمان بيعة السلطان، ولا يحلِّف قاضٍ أحدًا في غير حق، ولا يحَلِّف إلاّ باليمين بالله، وله أخذ المحكوم بالتوبة قهرًا، ويُظهر له من الوعيد ما يقُوده إليها طوعًا، ويتوعده بالقتل فيما لا يجب فيه القتلُ، لأنه إرهاب لا تحقيق، ويجوز أن يحقق وعيدَه بالأدب دون القتل، بخلاف القضاة، وله سماع شهادات أهل المِهَن ومن لا يسمعه القاضي إذا كثُر عددُهم، وله النظر في المواثبات، وإن توجب غرباً ولا حدا، فإن لم يكن بواحد منهم أثر، سمِع قولَ مَن سبق بالدعوى، أو به أثر‏:‏ فقيل‏:‏ يسمع أولاً ولا يرعَى السبق، والأكثرون على سماع السابق أولاً، والمبتديء بالمواثبة أعظم جُرماً وتأديباً، ويختلف تأديبُهما باختلافهما في الجُرم، وباختلافهما في الهيئة والتصون، وإن رأى المصلحةَ في قمع السفلة إشهارَها بجرائمها فَعَل، فهذه الوجوه التسعة يقع بها الفرق بين الأمراء والقُضاة قبل ثبوت الجرائم، ويستَوُون بعد ثبوتها في إقامة الحدود‏.‏

قاعدة‏:‏ يقدم في كل ولاية مَن هو أقوم بصلاحها، فيقدم في الحروب مَن هو أعلم بسياسة الجيوش ومكائد الحروب، وفي القضاء مَن هو أعلم بالأحكام ووجوه الحجاج، وفي الأيتام مَن هو أعلم بقيمة المال واستصلاح الأطفال، وفي إقامة الصلوات مَن هو أعلم بأحكام الصلاة وأقرب للشفاعة بِدِينِه وورعِه، وقد يكون المقدم في باب مؤخراً في باب كالنساء مقدَّمات في الحضانة، ومؤخَّرات في الجهاد والصلاة، لأن تزيد شفقتهن وصبرهن يقتضي مزيد صلاحهن للأطفال ومصالح العيال، فهذه القاعدة تقدم في جميع هذه الولايات على تبايُنها مَن هو أقومُ بها‏.‏

قاعدة‏:‏ المصالح ثلاثة‏:‏ واقع في مواقع الضرورات، وفي الحاجات، وفي التتمات، وقد تقدم بسطة في مقدمة الكتاب، فاشتراطُ العدالة ضروري في الشهود

صوناً للدماء والأموال عن كذب أرباب الأمر، في الإمامة حاجة لأنها شفاعة، والحاجة داعية إلى صلاح حال الشفيع عند المشفوع عنده، وتتمة في ولاية النكاح صوناً للحرائر عن الوضع في المواطن الدِنِيَّة، ولا يضطر إليها، لأن حال القرابة يمنع من الإضرار والرمي في العار، فلهذه القاعدة اشترطت العدالة في الولايات، ولم يشترطها بعضهم في الإمامة العظمَى لغلبة السوق على وُلاتها، فلو اشتُرطت لتعطلت التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولونه من القضاة والوُلاة، وأخذ ما يأخذونه، وبذل ما يعطونه، وفي هذا ضرر عظيم أفظع من فوات عَدالة السلطان، ولما كان تصرفُ القضاة أعَمَّ من تصرف الأوصياء وأخص من تصرف الأئِمة، اختُلف في إلحاقهم بِهِم أو بالأوصياء على الخلاف في عدالة الوصي‏.‏ وإذا نفذت تصرفاتُ البُغاةِ ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ من القطع بعدم ولا يتهم، فأولى نفوذ تصرفات الوُلاة والأئِمة مع غلبة الفجور عليهم، مع نُدرة البُغاةِ وعموم الضرورة للوُلاةِ‏.‏

قاعدة‏:‏ كل من ولى ولايةَ الخلافة فما دونها إلى الوصية لا يحال له أن يتصرف إلاّ بجلب مصلحة أو دَرْء مفسدة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏مَن وَلِى من أمور أمتي شَيئاً ثُم لمَ يجْهدْ لهم ولم ينصَح فالجنةُ عليه حَرامٌ‏)‏ ولقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلاَّ بِالتَّي هِي أَحْسنُ‏)‏ وكذلك عند ‏(‏ش‏)‏ لا يبيع الوصي صاعا بصاًعٍ، ولا فائدة فيه، ولا للخليفة أن يفعل ذلك في أموال المسلمين، ويجب عليه عزل الحاكم إذا ارتاب فيه دفعاً لمفسدة الريبة، ويعزل المرجوح عند وجود الراجح تحيلاً لَمزيدِ المصلحة، واختلف في عزل أحد المتساويين بالآخر، فقيل‏:‏ يمتنع لأنه ليس أصلح للأئِمة، وقيل‏:‏ ولأنه يؤذي المعزول بالعزل واتهم من الناس‏.‏ ولأن ترك الفساد أولَى من تحصيل الصلاح للمتولي، وأما الإنسان في نفسه فيجوز له ذلك فيما يختص به، حصلت المصلحة أم لا، ولا يشكل بأنَّا لو جوزنا هذا ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏من الحجر عليه بالرشد، لأنا لا نحجر بمن تعرض عن المصلحة يقف كان، بل ضابطُه‏:‏ أنَّ كل تصرف خرج عن العادة لم يستجلب به حَداً شرعياً وقد تكرر منه فإنه يَحجر عليه فللقيد الثاني احترازاً من استجلاب حد الشراء والمضاجر، والثالث احترازاً عمن رَمى درهماً في البحر فإنه لا يحجّر عليه حتى يتكرر منه تكرراً يدل على سفهه، فَعَلَى هذه القاعة يتخرج اختلاف الأحكام في الخصوم والمتهمين والجرائم وغيرها‏.‏

قاعدة‏:‏ التكاليف قسمان‏:‏ عامٌ وخاص‏.‏ فالعام كالصلاة‏.‏ والثاني كالحدود، والتعازيز، وتولية القضاة ونحوه، فهذا خاص بالأئِمة ونوابهم، فلا يجوز لأحد أن يفعله إلاّ بإذنهم، فإن فرطوا فيه قال إمام الحرمين في كتابِه المسمَّى بالغِياثي‏:‏ إن شغَر الزمان عن الإمام انتقلت أحكامُه إلى أعلم أهل ذلك الزمان، لأن قضية الدليل استوى الناس، لكن لما كان ذلك يؤدي للتشاجر خُص به أفضلُهم وهو الإمام، فإذا تعذر ذلك انتقل لأعلمهم دفعاً للمفاسد بحسب الإمكان علم أتم الطريق، فهذه القاعدة مُجمَع عليها لا يجوز لأحد التعدي على وُلاة الأمور فيما فوض إليهم من الأمر، ويجب عليهم أعني ولاةَ الأمور بذل الاجتهاد في هذه الأمور، وهي كثرة مذكورة في أبواب الفقه من أموال الغائبين والصبيان والمجانين والنساء‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ والحجر على المفلسين والمبذرين والتحري في بيت مال المسلمين بالخيانة والتصرف وقسمة الغنائم وَالزكاة، وكذلك كثير يعرف في مواضعه‏.‏

تمهيد‏:‏ ما تقدم من التوسعة في أحكام وُلاة المظالم وأمراء الجَرائم ليس مُخالفاً للشرع بل تشهد له القواعد من وجوه‏:‏ أحدها أنّ الفساد قد كثر وانتشر بخلاف العصر الأول، ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا يخرج عن الشرع بالكلية لقوله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏لاَ ضَرَرَ ولاَ ضِرَارَ‏)‏ وترك هذه القوانين يؤدي إلى الضرر، ويؤكد ذلك جميعُ النصوص الواردة بنفي الحرج، وثانيهما أنّ المصلحة المُرسَلة قال بِها مالك وجَمع من العلماء، وهي المصلحة التي لم يشهد الشرع باعتبارها ولا بإلغائها وهذه القوانين مصالحُ مُرسلة في أقل مراتبها، وثالثها‏:‏ أنّ الشرع شدد في الشهادة أكثر من الرواية لتوهم العداوة، فاشتَرط العدد والحرية ووسَّع في السلَم والقِراض والمساقاة وسائر العقود المستثناة لمزيد الضرورة، ولم يَقبل في الزنى إلاّ أربعة وقبِل في القتل اثنين والدماء أعظم، لكن المقصود الستر، ولم يحرج الزوج المُلاعن في البينة خير في أيمانه، ولم يجب عليه حد بذلك بخلاف سائر القَذَفَة، لشدة الحاجة في الذبِّ عن الأنساب، وصون العيال والفُرُش عن أسباب الارتياب، وهذه المباينات كثيرة في الشرع لاختلاف الأحوال، فكذلك ينبغي أن يراعي اختلاف الأحوال في الأزمان، فتكون المناسبةُ الواقعة في هذه القوانين مما شهدت القواعد لها بالاعتبار، فلا تكون مرسَلة، بل على رتبة فتلحق بالقواعد الأصلية، ورابعها‏:‏ أن كل حكم في هذه القوانين ورد دليل يخُصه، كما ورد في الصحيح‏:‏ ‏(‏إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته وجد رجلاً اتهمه بأنه جاسوس للعدو فعَاقَبوه حتى أقَر‏)‏ وأما قَبول قول المستورين فهو

الواقع في تقليد عمر - رضي الله عنه - لأبي موسى الأشعري فقال فيه‏:‏ المسلمون عدولٌ بعضُهم على بعض، إلاّ مجلوداً في حد، أَوْ مجَرّباً عليه شهادة زور، أو ظَنيناً في وَلاء أو نسَب، وقد أَخذ بهذا ‏(‏ح‏)‏ وأَثبت الحكَم في القضاة به فأولَى في المظالم والجرائم، ونص ابنُ أبي زيد في النوادر على أنا إذا لم نَجد في جهة إلاّ غيرَ العدول أَقمْنا أصلَحَهم وأقلهم فجوراً للشهادة عليهم، ويلزَم مثلُ ذلك في القُضاة وغيرِهم لئلا تضيع المصالح، وما أظنه يخالفه أحد في هذا، فإن التكليفَ مشروط بالإمكان، وإذا جاز نَصب الشهود فسقة لأجْل عموم الفساد جاز التوسعُ في أحكام المَظالم والجرائم لأجل كثرة فساد الزمان‏.‏

وخامسها‏:‏ أنّا لا نشك أنّ قضاة زماننا وشهودهم وولاتهم وأُمَنَائهم لو كانوا في العصر الأول مَا وُلُّوا ولا حرج، وولايتهم حينئذ فسوق، ظن ولاهم، فإن خيار زماننا هم أَراذلُ ذلك الزمان، وولاية الأراذل فسوق، فقد قال الحسن البصرى‏:‏ أدركت أقواماً كانت نسبة أحدنا إليهم كنسبة البقلة إلى النخلة‏.‏ وهذا زمان الحسَن فكيف زماننا، فقد حسُن ما كان قبيحاً واتَّسع ما كان ضيّقاً، واختلفت الأحكام باختلاف الأزمان، ويعَضد ذلك من القواعد الأصلية‏:‏ أنّ الشرع وسع للموقع في النجاسة، وفي زمن المطر في طينه، وأصحاب القُروح، وجوز ترك أركان الصلاة وشروطها إذا ضاقت الحال عن إقامتها، وكذلك كثير في الشرع، وكذلك قال ‏(‏ش‏)‏ - رضي الله عنه -‏:‏ ما ضاق شيء إلاّ اتَّسع‏.‏ يشير إلى هذه المواطن‏.‏ فكذلك إذا ضاق علينا الحال في دَرء المفاسد اتّسع كما اتَّسع في تلك المواطن‏.‏ وسادسها أنَّ من لطف الله بعباده ‏(‏أن‏)‏ يعاملهم معامَلة الوالد لولده فالطفلُ لضعف حاله يغذى بالَّلَبن، فإذا

اشتد نقل إلى لطيف الأغذية، فإذا اشتد نقل إلى غليظها، فإن مرض عومل بمُقتضىَ مرضه، وهذه سنة الله تعالى في خلقه‏.‏ فأول بدء الإنسان في زمن آدم كان الحال ضعيفاً ضيقاً فأبيحت الأختُ لأخيها، وأشياء كثيرة وسع فيها، فلما اتسع الحال وكثرت الذرية، وعنت النفوس حرم ذلك في زمان بني إسرائيل، وحرم السبت والشحوم والإبل وأمور كثيرة، وفرض عليهم خمسون صلاة وتوبة أحدهم بالقتل لنفسه، وإزالة النجاسة بقطعها إلى غير ذلك من التشديدات، ثم جاء آخر الزمان فهرمت الدنيا، وضعُف الجسد وقل الحبيب، ولاَن النفوس، أحلت تلك المحرمات وعملت الصلوات خمساً، وخففت الواجبات، فقد اختلفت الأحكام والشرائع بحسب اختلاف الأزمان والأحوال، وظهر أنها سنة الله في سائر الأمم، وشرعُ مَن قبلَنا شرع لنا، فيكون ذلك بياناً على الاختلاف عند اختلاف الأحوال في زماننا، وظهَر أنها من قواعد الشرع، وأصول القواعد، ولم يكن بدعاً عما جاء به الشرع‏.‏

الولاية السابعة‏:‏ ولاية الحِسبة، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو وإن كان واجباً على كل مسلم بثلاثة شروط‏:‏ أنْ يكون عالماً به، وأن لا يؤدي إلى مفسدة أعظم، وأن يفيد إنْكارُه، فإن انتفاء الشرطين الأولين ينفي الجوز، وانتفاء الثالث ينفي الوجوب ويَبْقَى الندب، والفرق بين آحاد الناس والمحتسب المولَّى من تسعة أوجه‏:‏ قال الماوردي‏:‏ إن فرضه فرض عين له لأجل الولاية، وهو على الناس فرض كفاية، ولا يجوز له التشاغل عنه بغيره، وغيره يجوز أن يتشاغل عنه بواجب آخر، وهو منصوب للاستعداء، ولا يستعدى لغيره، وعليه إجابة من استعداه، وليس ذلك على غيره، وله البحثُ عن المنكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر، وغيره ليس له البحث، وله أن يتخذ أعواناً لقهر المعاندين، وليس ذلك على غيره وله التعزيزُ في المنكرات الظاهرة بخلاف غيره، ويرتزق على الحِسبة من بيت المال كالقاضي لأنهما من مصالح المسلمين العامَّة بخلاف غيره، وله الاجتهاد في العوائد كالمقاعد في الأسواق وإخراج الأجنحة وليس ذلك لغيره في الدين، والعلم بالمنكرات ليتمكن منهما، وإلاَّ فينهَى عن المعروف ويأمر بالمنكر وهو لا يشعر‏.‏ والحِسبة مرتفعة عن أحكام القضاة من وجهين، ومقصورة عنها من وجهين، وزائدة عليها من وجهين، فيوافق في جواز الاستعداء، وسماع دعوَى المستعدى عليه من حقوق الآدميين في ثلاثة أنواع فقط‏:‏ النجش والتطفيف في كيل أو وزن‏.‏ والثاني‏:‏ الغش والتدليس في بيع أو ثمن، والثالث‏:‏ المطل بالدين مع المُكنة‏.‏ واختص بهذه الثلاثة دون غيرها تعلقها بالمنكر الظاهر الذي نصب له، لأنه موضوع منصب الحِسبة في عرف الولايات‏.‏

والوجه الثاني الذي يوافق فيه‏:‏ إلزام المدعَى عليه الخروج من الحق المدعَى به، وهذا عام في جميع الحقوق، وإنما هو خاص في الحقوق التي جاز له سماعُ الدعوى فيما إذا وجبت بالإقرار والمُكنة واليسار‏.‏ فيُلزم المقِر المُوسر الخروجَ منها، لأن في تأخيرها منكراً هو منصوب لإزالته، وأما الوجهان في قصورها عَن القضاة فلا يسمع عموم الدعاوى الخارجة عن ظاهر المنكرات في العقود والمعاملات وسائر الحقوق، إلاّ أن يُفوض ذلك إليه بنص صَريح يزيد على منصب الحِسبة‏.‏ فيكون قاضياً ومحتسباً‏.‏ فيشترط فيه شروط القضاء، ويقتصر على الحقوق المعترف بها بخلاف ما جحد، لاحتياجه لسماع البينات والأَيمان، وليس منصبَه، والوجهان الزائدان له على الأحكام‏:‏ فتعرُّضه لوجوه المعروف والمنكر وإن لم يُنْهَ إليه، بخلاف القاضي، وله من السلاطة والحماية في المنكرات ما ليس للقضاةِ، لأن موضوعه الرهبة، وموضوع القضاء النَّصَفة، وهو بالأَنَاةِ والوقار أَولَى، فإن خرج القاضي إلى السلاطة خرج عن منصبه الذي وليه، وتُشابهُ الِحسبةُ ولايةَ الظالم من وجهين، وتخالفهَا من وجهين، فتشابهها في الرهبة، وجوز التعرض للإطلاع، وتخالفها أنّ موضع ولاية المظالم،

فيما عجز عنه القضاة، والحسبة ممارحه غرم القضاة، فرتبة المظالم أعلى، ولوَالي المظالم أنْ يوقع للقضاة والمحتسبة، والمحتسب لا يوقع لأحد منهما، ويجوز لوالي المظالم أن يحكم، وليس للمحتسب أن يحكم إذا تقرر الفرقُ بين هذه الولايات فللمحتسب أن يأمر بالجمعات ويؤدّب عليها، فإن رأى القومُ أنّ جُمعتَهم تنعقد، ورأى خلافَه، لا يعارضهم، فإن رأى انعقادها ولم يؤده فيأمرهم لئلا تعطل الجمعة مع طول الزمان، وقيل لا يأمرهم لأنهم لا يلزمهم مذهبُه، ويأمرهم بصلاة العيد وجوباً إن قلنا هي فرض، وإلاّ فندباً، ويندب إلى أمر الناس بالأَذان والجماعات إذا تركه أهل البلد ولا يتعرض لآحاد الناس إذا تركَ ذلك وهي قائمة في البلد، ووعيده على ترك الجماعات بحسب شواهد الحال‏.‏ فقد قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح‏:‏ ‏(‏لقَد هممتُ أن آمُر أصْحابي أن يَجمَعُوا حَطَباً، وَآمرَ بالصلاة فَيُؤَذَّن لها وتُقَام، ثم أُخَالِف إلى مَنزل قَوم لا يحضُرون الجماعةَ فأحرِّقها عليهم‏)‏ وينهَى من أَخَّر الصلاة عن وقتها قال سببها‏:‏ حَثّهُ على فعلها من غير تأديب أو تهاونا زَجَره وأمره بفعلها، ولا يتعرض عن الناس فيما يخالف مذهَبه في الطهارات وغيرها، ويأمرهم بينا صورهم، وإصلاح سرهم وعمارة مساجدهم ومراعاة بني السبيل من ذوي المُكنة إذا لم يقُم بيتُ المال بهذه المصالح، ولا يلزم واحداً معيناً من المال ما لا تطيبُ به نفسهُ‏.‏ بل يقول‏:‏ يُخرج كل منكم ما تطيب به نفسهُ، ويعين بعضهم بلا مصلحة، فإذا حصلت كفاية المصلحة شرع فيها وألزم كلَّ واحد بما التَزَمَه، وإن كانت هذه الدعوة لا تلزم في غير هذا الموطن، إلا أن المصالح العامة يوسع فيها ما لا يوسع في المصالح الخاصة لعموم الضرر‏.‏ وإذا عمت هذه المصلحة فلا بد من استئذان السلطان لئلا يفتات عليه، فإن

هذه إذا عمت ليست من معهود الحِسبة، إلاّ أنْ يتعذر استئذانُه، أو يخشى ضرر، وله الأمر بالحقوق الخاصة كالمطل بالدَّين مع المُكنة، ولا يحبس فيه لأن الحَبس حكم، وهو ليس بحاكم، وله أن يلازم عليها، ولا يأخذ نفقات القارب لافتقاره إلى حكم شرعي فيمن يجب له، ويجب عليه، وكذلك كفالةُ مَن تجب كفالتُه من الأطفال حتى يحكم بها الحاكم‏.‏ فيأمر حينئذ بِها على شروطها‏.‏ ويأمر الأولياء بإنكاح الأَيامَى، والصالحين من أكفائهم إذا طلبن، وإلزام النساء أحكام العِدد، وله تأديبُ مَن خَالفته في العدة من النساء، ولا يؤدب مَن امتنع من الأولياء، وأما مَن نَفَى ولداً قد ثبت فراشه ولحق نسبه أخذه بأحكام الآباء، وعزره على الباقي، ويُلزم السادة حقوق العبيد والإماء، وحقوق البهائم، من العلف وعمل الطاقة، ومن أخذ لقيطاً فقصَّر في كفالته ألزَمهُ بها، أو يسلمه إلى مَن يقوم به، وكذلك واجب الضوال، فهذا أمره بالمعروف، وأما نهيه عن المنكر مَن غير عبادة عن وضعها، ولا يأخذ بالتُّهَم كما يحكَى عن محتسب أنه سأل داخل المسجد بِنَعليه هل تدخل بهما بيت الطهارة‏؟‏ وأنكر عليه ذلك وأراد إخلافه، وكذلك لَو ظن أنه غير غسل، أو لم يصل، أو لَم يَصم لم ينكر عليه، لكن تجوز التهمة له، والوعظ بعذاب الله تعالى، ولو رآه يأكل في رمضان سأله عن السَّبَب، فإذا لم يذكر عُذراً أدّبه، وكذلك ينكر عليه إذا علم له عذراً إذا جاهَر بِفِطره، لأنه عرَّض نفسه للتهمة، واقتداء الجاهل به، وأمر الزكاة لعمالها دونه، وينكر على المتعرضِ للصدقة وهو غني ويؤدبه، فلو رأى عليه آثار الغِنَى أعلمه أنها لا تحِل لغني، ولا ينكر عليه لجواز أن يكون فقيراً في الباطنِ، ومن فوى العتار منعه من أخذ الصدقة، ويعزر من تعرض لعلم الشرع من فقِيه أو واعظ وخشي اغترار الناس به في سوء تأويل أو تحريف جواب، أنكر عليه، وأظهر أمره الناس، ومن أشكل عليه لا ينكر عليه حتى يختبره، فقد أقامَ علي - رضي الله عنه - القُصَّاص، ومَر بالحسن وهو يتكلم فاختبره فقال لَهُ‏:‏ ما عمِادُ الدّين‏؟‏ قال‏:‏ الورع، قال‏:‏ وما آفته‏؟‏ قال‏:‏

الظلم، قال‏:‏ تكلم الآن إن شئت، ويمنع الناس مظان الرَّيَب، فقد نهى عمر رضي الله عنه أن يصلي الرجالُ مع النساء، ثم رَأَى رجلاً يصلي معهن فضربه بالدرة، فقال له الرجل‏:‏ لئن كنتُ تقيًا لقد ظلمتني، وإن كنتُ أسأت فما أعلمتني، فقال عُمر رضي الله عنه‏:‏ أما شهدت عَزمتي‏؟‏ قال‏:‏ ما شهدت لك عزمة، فألقى إليه عمر الدرَّة وقال‏:‏ اقتص منى، فقال‏:‏ لا أقتصُّ اليومَ، قال‏:‏ فاعف، قال‏:‏ لا أعفو فافترقا على ذلك، ثم لقيهُ من الغَد فتغير لونُ عُمر رضي الله عنه، فقال الرجلُ‏:‏ يا أمير المؤمنين كأني أَرَى ما كان أسرع مني قد أسرع فيك، قال‏:‏ أجَل، قال‏:‏ فأشهدك أني قد عفوت عنك‏.‏ وينهَى عن وقوف الرجل مَعَ المرأة في طريق خالٍ، ولا يعجل بالتأديب لئلا يكون مَحَرماً وليقُل له إن كانت ذات محرم فصنها عن الريَب، أو أجنبية فخَف الله تعالى من خلوة تؤديك إلى معصيته، ويؤدب الذمي عن إظهار الخمر، ويبطل آلات اللهو حتى تصير خشباً، ويؤدب على المجاهرة بها وبالسكر، وما لم يظهر من المنكرات لا يتعرض له، ويخلي الناس في ستر الله إلاّ أن يخبره من يثق به إنّ رجلاً خَلاَ برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها فيكشف عن ذلك، وذلك غيره من الناس إذا عرف ذلك، وأما ما لا يخبر به مَن يثق به‏.‏ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏مَن بُلي بِشَيء مِن هذه القاذُوراتِ فلْيسْتتَِر بسِتِر الله، فإنه مَن يُبْدِ لَنا صَفحَةَ وجهِه نُقِمْ عَليَه حَدَّ الله‏)‏ أما مع الإمارة فيجوز‏.‏ لما يروى أنّ المغيرةَ بن شُبعه كانت تختلف إليه امرأة

بالبصرة، فبلغ ذلك أبا بَكْرة وسهل بن معبد ونافع بن الحارث وزياد بن عمير، فرصَدُوه حتى دَخلتْ عليه فهجموا عليه، فشهدوا عليه عند عمَر رضي الله عنه القضية المشهورة التي حدَّ فيها أبا بكرة، ولم ينكر أدَاء الشهادة، ويُنكر العقود والمعاملات المجمعَ على فسادها دون المختلف فيها إلاّ ما كان الخلاف فيها ضعيفاً، وهى ذريعة المتفق عليه، وكذلك عقود الأنكحة المتفق عليها دون المختلف فيها، إلا أن يضعف الخلاف وتكون ذريعة للزنى كالمُتعة، وله اختبار مَن يكتال للناس وحرث، واختبار القَسام والزراع للقضاة لأجل أموال الأيتام، كما أنّ اختبار الحراثين في الحرث والأسواق إلى الأمر، فإن وقع في التطفيف تجاحُد فالقضاة أولى به لأنه أحكام، والتأديب فيه للمحتسب، فإن تَولاَّه الحاكم جاز لاتصاله بحكمه، وينكر على العموم دون الخصوص الشائع بالمَكَاييل التي لم تولف، فإن تراضى بها اثنان لم يعرض لهم، ومتى كان حق آدمي صرف كالتعدي على جدار الجار، فلا بد من طلب صاحب الحق، فإن لم يكن بينهما تجاحد‏:‏ زال المنكر من ذلك‏.‏ وإلاَّ فأمرهما لِلقُضاة، ومن ظَلم أجيراً من غير تنازع منه وإلاَّ فللقضاة، وله أن يقر من الأطباء والصناع مَن هو أصلح الناس، ويلزم أهل الذمة بلُبس الغيار، والمجاهرة بدينهم، ويمنع المسلمين من أَذَاهُم، ويمنع من يطول على الناس في الصلاة ويضر بالضعفاء وذوي الحاجة، كما أنكر رسول الله على معاذ، ومَن لم يمتنع منهم لا يؤدبه عليها، بل يعزله ويولي غيره فالحاكم لا يحتجب عن الأحكام، ووافقنا المعالج، أو غير ذلك

أنكر عليه، ويمنع أربابَ السفن من حمل ما لا تسعه ويخاف عليها منه، ومن السير عند اشتداد الريح، وإذا حمل فيها الرجال والنساء حجز بينهم بحائل، وإذا اختص بعض الأسواق بمعاملة النساء اعتبر سيرته وأمانته، ويزيل من مقاعد الأسواق ما يضر بالناس وإن لم يستبعد فيه، وكذلك الرواشن وغيرها مما يستضر به الناس، ويجتهد فيما يضر بما لا يضر، لأنه من أهل الاجتهاد العُرفي دون الشرعي، والفرق‏:‏ أنّ الشرعي مراعى فيه أصلُ ثبوت حكمه بالشرع، والعرفي ثبت أصله بالعرف، ويمنع من نقل الموتى حيث يمنع، ومن خِصاء الحيوان حيث يمنع، ويؤدب عليه وإن استحق عنه قوَد أَو دية أخذه لمستحقه ما لم يكن فيه تناكر، ويمنع من الكَسب بالكهانة ويؤدب عليه الآخذَ والمعطي، والمنكرات كثيرة، وها أنا أذكر فرُوعاً لمالك رحمه الله‏.‏

فــرع

قال صاحب البيان‏:‏ يَمنع المحتسب من أخذ الحجام شعور الناس ليُزَور النساب به شعورَهن إذا لم يكن لَهن شَعَر، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏لَعَنَ الوَاصِلَةَ وَالمستَوصِلةَ‏)‏ قاله مالك‏.‏

فــرع

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ يخرج من السوق من يغش الناس، لأنه أشد عليه من الضرب وإن لم يكن معتاداً للغش، وعن مطرف وعبد الملك‏:‏ يعاقب بالسجن والضرب والإخراج من السوق إن كان معتاداً ولا يرجع حتى يُظهر تَوبَته وتُعلم صحتُها، وغير المعتاد على قول مالك يرجع بعد مده يرجَى أنه تاب فيها وإن لم تَظهر توبتُه، وقيل‏:‏ لا يؤدب بالإخراج إلاّ إذا كان إذا رجع إليه عرف وإلاّ فلا،

وأصل الإخراج‏:‏ أنّ عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أمير الأجناد أن لا يُترك النصارى بأعماِلهم جزارين ولا صرافين، حذراً من غش المسلمين‏.‏

فـــرع

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ إذا وجد الزعفران مغشوشاً لا يُحرق، ويتصدق باللبن على المساكين إذا كان هو الذي غشه، وكذلك الزعفران والمسك، قال ابن القاسم‏:‏ ذلك في الشيء الخفيف دون الكثير لئلا تذهب أموال عظيمة، وسوَّى مالكٌ بينهما، وأما إن غش غيره فلا خلاف أنه لا يتصدق به، بل تباع ممن يؤمن أن يغش به، وكذلك المسك يباع من المأمون ويتصدق بثمنه، قال‏:‏ وقوْلُ ابنِ القاسم في التفرقة أحسن، لأن العقوبات في الأموال إنما كانت في أول الإسلام كما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - في مانع الزكاة أن يُؤخذَ منه شطرُ ماله عَزمة من عَزمات ربنا، وعنه - صلى الله عليه وسلم - في حريسة الجبل أنّ فيها غرامة مثليها وجَلَدات نكالاً، وعنه - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏مَن أخَذَ من حَرَم المدينةِ شَيئاً فلِمَن أخذه مثلهُ‏)‏ ثم نسخ ذلك بالإجماع، وقال غيره محتجاً لمالك‏:‏ إنّ العقوبات بالأموال باقية في كفارة الظهار، وجزاء الصيْد إذا قتل عَمداً، وكفارة رمضان‏.‏

فــرع

قال مالك‏:‏ لا يباع القمح مغلوثاً ويُغربل إنْ كان أكثر من الثلث لعدم انضباطه، وتستحب الغربلة إن كان يسيراً‏.‏

فـــرع

قال مالك‏:‏ يُمنع الجزار من نفخ اللحم لأنه يغير طعَمه، ويؤدب إنْ فَعَلَه، قال‏:‏ يعْني النفخ بعد السلخ ليظهرَ سِمن اللحم، فهو غش، ويعتبر من غير ضرورة بخلاف قبل السلخ‏.‏

فـــرع

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ يمنع الرجل من إعطاء ولده في كُتَّاب العجم يتعلم كتابه العجمية، ويُمنع المسلم من تعليم النصارى الخط وغيرَه، لأن في التعليم في كُتَّاب العجم إظهارَ الرغبة لهم وذلك من تولِّيهم وإعزازهم، وتعليم المسلم لهم الخط ذريعة لقراءتهم القُرآن فيكذبونه ويهزءون به، وجعل ابن حبيب ذلك مسقطاً للشهادة‏.‏

فـــرع

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ لا يستكتب النصراني لأنه يستشار، والنصراني لا يستشار في أمور المسلمين‏.‏

فـــرع

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ يمنع الذي ينظر في النجوم ويقول‏:‏ الشمس تكسف غداً، والرجل يقدم غداً، فإن لم يمتنع أدب، قال القاضي أبو الوليد‏:‏ ليس في معرفة الكسوف من جهة الحساب ادعاءُ غيب ولا ضلالة، لأنه أمر منضبط بِحساب حركات الكواكب، لكنه يكره الاشتغالُ به لعدم الفائدة‏:‏ ومن حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه، وربما سمعه الجاهلُ فظن أنه من علم الغَيْب فيضر في الدين، فيؤدب على ذلك لما يؤدي إليه من فساد العقائد، وأما إخباره بغير ذلك من المغيبات‏:‏ فقيل‏:‏ ذلك كفر فيقتل ولا يستتَاب، لِقوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏أصَبح مِن عبادي

مُؤمن بي وكافرٌ بي‏)‏ الحديث، وقيل‏:‏ يستتَاب فإن تاب وإلاّ قُتل، قال أشهب‏:‏ يُزجر عن ذلك ويؤدب فقط، قال‏:‏ وعندي هذا لَيسَ باختلاف، بل بحسب أحوال، فإن اعتقد أنَّ النجوم فعالة لذلك، وهو مستبْشر بذلك فشهد عليه قتل بغير استتابة، لأنه زنديق، وغير مستبْشر فإن تاب وإلاّ قتل لأنه كافر غير زنديق، فإن اعتقد أن الله تعالى هو الخالق عندها أدّب، وقدح ذلك في شهادته، ولا يحل تصديقهُ فيما يقول، قاله سحنون، لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏قُل لآ يَعْلَمُ مَن فِي السَّماوَاتِ واَلأَرْضِ الغَيْبَ إلاّ الله‏)‏ ولقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إلاّ مَن ارْتضى مِن رسُول‏)‏‏.‏

تنـبيه‏:‏ إذا قال‏:‏ قال‏:‏ إنها فعالة‏:‏ قال بعض العلماء‏:‏ يكون ذلك كقول المعتزِلة‏:‏ الحيوانات كلها تفعل بِذَاتِها وتستقل بتصرفاتها، والصحيح‏:‏ عدمُ تكفيرهم، ولا يكفر أحد من أهل القبلة، فما الفرق‏؟‏ وإن ادَّعى أنّ الله تعالى يخلُق عندها‏.‏ فليس هذا من باب علم الغيب، لأن الربط بينهما وبين هذه الأحكام إذا سلم كان هذا كالإخبار بمجرد الفصول الأربعة، وليس من باب الإخبار بالغيب الذي استأثر الله تعالى به، بل الذي استأثر الله تعالى به العلم بالغيب من غير سبب، فإنه تعالى لا يحتاج في علمه إلى الأسباب، بل النزاع مع هذا القائل في الربط فقط، فنحن نمنعه، وادِّعاؤه إياه جهل لادعاء علم غيب، كما لو ادّعى أنً الماء يغرق، والنار تُروي، ليس هذا من ادّعاء علم الغيب في شيء، وقد يخبر الأنبياء وَالأولياء عليهم السلام بالمغيبات بناء على كشف، أو علمٍ ضروري، أو ظن غالب، يخلُقه الله تعالى لهم، فهذا سبب أوجب لهم ذلك، وقد قال الصدّيق في حديث مسلم لما قالت له عائشة - رضي الله عنه - ا‏:‏ هذان أخوايَ فَمَن أختي‏؟‏ قال‏:‏ ذو بطن بنتِ

خارجة أراها جارية، فأخبر بأن الذي في بطن امرأته أنثى، مع أنّ الله تعالى يقول‏:‏ ‏(‏ويَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ‏)‏ من غير سبب‏.‏ والصدّيق يعلمه بسبب ما خلقه الله في نفسه، فينبغي أن يتنبه الفقيهُ لهذا القاعدة حتى يعلم ما يكفر به مما لا يكفر به، وما وجب اختصاصهُ بالله مما لم يجب، ويحصل له فهمُ المنقولات عن الصحابة وغيرهم، والجمعُ بينها وبين الأدلة الشرعية‏.‏

فـرع

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ يُنهَى الذي يزعمُ أنه يعالج المجانين بالقرآن، لأن الجان من الأمور الغائبة، ولا يعلم الغيب إلاّ الله‏.‏

فــرع

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ لا يخلط الطِّيب من القمح أو الزيت أو السمن بِرديئة فيحرم، لأنه غش إلاّ أن يبين عند البيع الخَلط وصفة المخلوطيْن وقدرُهما، ويباع ممن لا يغش به، وهذا فيما لا يتميز كالزيتيْن، أما القمح بالشعير، والطعام بالغلة، والسمين مع المهزول، فلا يباع الكثير منه حتى يميز أو يفرقا، ويجوز في القليل، وقيل إنْ خلطهُ للبيع مُنع، أو للأكل جاز في اليسير، قاله عبد الملك ومطرف‏.‏

فــرع

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ يمنع من يبيع للصبيان، لأنه لا يدري هل أَذن في ذلك أولياؤهُم أم لا، فيكره ذلك تنزيهاً‏.‏

فــرع

قال‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ يحال بين المجْذوم البين الجُذام وبين رقيقه إذَا كان يضر بُهم كما لا يحال بينه وبين الحرة امرأته، وقال سحنون‏:‏ لا يمنع من وطْء إمَائه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏لا عَدْوَى ولا طِيَرَة‏)‏ الحديثَ، وقد رأَى عُمر - رضي الله عنه - امرأة مجذومَة تطوف بالبيت فقال لها‏:‏ يا أمَة الله، لو جلستِ في بيتك، لا تؤذي الناس، فَجَلَست، وسنحون يقول‏:‏ ضررهن أعلى، لأنه يؤدي به الحال إلى الزنى أو العُنّة‏.‏

قاعـدة‏:‏

كل حكم مرتب على عُرف وعادة، يبطل عند زوال تلك العادة، كإيجاب النقود في المعاملات، والحنث بالأمور المتعارفات، وصفات الكمال والنقص في عيوب البياعات، تعتبر في ذلك كله العادات إجماعا، فإذا تغيرت تلك العوائد تغيرت تلك الأحكام إجماعاً، وولايَة الحِسبة وغيرها من الولايات، ضابط ما يندرج فيها مما لا يندرج من الأحكام، مبني على العوائد فيما يعرض لمتوليها، فكذلك قيل‏:‏ هذا للمحتسب دون القاضي، وهذا للقاضي دون المحتسب، فلو اختلفت العوائد اختلفت هذه الاختصاصات، فاعْلَم ذلك، والله عزّ وجلّ أعلم‏.‏